سياسة التعطيش واغتيال الأنهار الأحوازية

عبّاس الكعبي

نظّم الشعب الأحوازي مؤخراً حَملة لتشكيل أحزمة بشريّة امتدت لعدة كيلومترات دفاعاً عن نهر (كارون) وحماية ما تبقّى من مياهه وإنقاذه من الاندثار، فجمَع المحتجون عشرات آلاف التوقيعات من المحتشدين، واتسعت رقعة المحتجين ضمن الحزام البشري الخامس بتاريخ 19 ديسمبر 2013.

وشهد نهر (كارون) على حضارة (عيلام) المنسوبة إلى (عيلام ابن سام ابن نوح) منذ نشأتها قبل أكثر من خمسة آلاف سنة على ضفافه لتتخذ من مدينة (السوس) عاصمة لها. تلك الحضارة التي زاحمت الحضارة (السومريّة) المعجزة وفقاً للمؤرّخين، لتشعّ (سومر) و(عيلام) وشقيقاتها الأخريات من الحضارات الساميّة كـ(بابل) و(آشور) و(كلدة) و(أكد) على الشعوب المجاورة والبعيدة بنورها.

وشهَد (كارون) أيضاً على عدّة وقائع حاسمة غيّرت مجرى التاريخ كالغزو الإغريقي والفتوحات الإسلاميّة واستشهاد الصحابي الجليل (البراء ابن مالك) على أسوار مدينة (تستر) العائمة على هذا النهر.

و(قارون) و(دُجَيْل الأحواز)، جميعها أسماء لنهر (كارون) البالغ طوله نحو 950 كيلومتراً، حيث يبدأ من جبال (زاجروس) وينتهي بـ(شط العرب) في الخليج العربي، فهو النهر الذي كان شاهداً على العديد من الثورات والانتفاضات الأحوازيّة وما رافقها من مجازر فارسيّة ارتكبت بحق الثوّار والمنتفضين، مثلما احتضن جثث شهداء (انتفاضة الإرادة) الأحوازية عام 2005، بعد أن كبّل الاحتلال الأجنبي الفارسي الإيراني أياديهم وأقدامهم فألقى بجثثهم في (كارون) ضمن سلسلة من أبشع الجرائم الإيرانيّة ضد شعب الأحواز، تماما مثلما شَهَدَ (دجلة) و(الفرات) ونهر (العاصي) بـ(حماه) على جرائم مماثلة في السنوات الأخيرة، لتعلن جميع هذه الأنهار أنّ الفاعل واحد.

وشيّدت إيران أربعين سداً على روافد نهر (كارون) وعددا من الأنهر الأخرى مثل (الكرخة)، (الجرّاحي)، (شاوور)، (الدزْ) وغيرها لتنقل مياهها إلى المناطق الفارسيّة كـ(أصفهان) و(قُم)، فأصبحت غالبيّة الأنهار الأحوازيّة في عداد الموتى، أمّا (كارون)، فلم يبق من مياهه سوى 20 بالمئة فقط، وتصبّ فيه مليارا متر مكعب من المياه الملوّثة سنويّاً وخمسون مليون متر مكعب من نفايات مصانع الصلب والحديد والبتروكيميائيّات ومشروع قصب السكّر الاستيطاني الفارسي في الأحواز المحتلة.

وفي حين يُعد نهر (كارون) المصدر الوحيد لتأمين مياه الشرب للعديد من المدن الأحوازيّة، كمدينة (الأحواز العاصمة) و(تستر) و(السوس) و(دور خوَينْ) و(المحمّرة) وعدد كبير من البلدات والقرى الأحوازيّة، إلا أنّ مياهه لم تعد صالحة للشرب لظهور أنواع من الجراثيم والسموم المتأتية من النفايات والمعادن كالرصاص والسيانور، كما أن عمليّة سرقة مياه (كارون) أدّت إلى تدمير مئات آلاف الهكتارات من أجود الأراضي الزراعية لقطع المياه عنها وتهجير سكّانها قسراً، ضمن جريمة اضطهاد اقتصادي ممنهجة نفذّتها الدولة الإيرانيّة ضد الأحواز أرضاً وشعباً.

ولم تسلم الأهوار ولا الأخوار من عمليّة التجفيف إثر سرقة مياه (كارون)، أمّا غابات النخيل التي تشكل امتداداً لغابات نخيل سهل وادي الرافدين لاحتلالها المكانة الأولى عالميا، فهي الأخرى لم تبق منها إلاّ الجذوع اليابسة، إذ ظلّت واقفة لتشهد هي الأخرى على جريمة المتسبّب في عطشها.

وبفضل مياه نهر (كارون) المسروقة، أنجزت الدولة الفارسيّة أكبر بحيرة اصطناعيّة في "الشرق الأوسط" - على حدّ قولها - بالقرب من مدينة (قُم) لتنقل إليها ثلاثمئة مليون متر مكعب من مياه (كارون)، رغم أن القانون الدولي يؤكّد ضرورة الحصول على موافقة أصحاب الأرض الأصليين لنقل مياههم وبقيّة ثرواتهم إلى مناطق أخرى، لذلك جَمَع المحتجّون الأحوازيّون عشرات آلاف التواقيع من المواطنين المناهضين لسرقة مياه أنهارهم، وفي مقدّمتها (كارون) الذي يُعد النهر الوحيد القابل للملاحة في المساحة الممتدّة من بلاد (السند) حتى بلاد (الرافدين).

و(كارون) الذي يتعرّض اليوم إلى التجفيف والحد من العطاء، كان على مرّ العصور بمثابة المنهل العامر للتجّار ولكل مار، حتى أضحى جزءاً هاماً من بيئة الأحواز وثقافة شعبها، فكتب عنه الأدباء وتغنّى به الشعراء، فهناك من وَصَفه بالمحطة الأخيرة التي وقفت فيها الشمس، وَوَصَفَه الآخر برمز العظمة والعزّة والصمود على مرّ الدهور والعهود، فنَعَته برمز الأحواز لإثبات الهويّة والوجود.

إلا أنّ هذا الرمز، يتعرّض اليوم إلى أخطر محاولة اغتيال، لإرغام أصحابه على الهجرة قسراً مثلما أفرغ من كائناته الحيّة بعد نفوقها.

8/1/2014