تحديات استراتيجية أمام مستقبل الأمة العربية
بقلم: عبد المالك سالمان
يبدو أن المنطقة العربية على موعد مع التاريخ مع فجر كل قرن جديد ولكن من الناحية التراجيدية ، فمع مطلع القرن التاسع عشر كانت المنطقة العربية ساحة لتأجيج الصراع بين الدول الأوروبية الاستعمارية الطامعة الى مد نفوذها الاستعماري الى المنطقة العربية، عبر العمل على تفكيك الامبراطورية العثمانية ووراثة المناطق العربية الخاضعة لها وقد ظهر ذلك من خلال الحملة الفرنسية التي قادها نابليون بونابرت على الشرق انطلاقا من مصر 1798م، والذي سعت بريطانيا لإفشاله تمهيدا لأن تكون لها اليد العليا في الحقبة الاستعمارية الأوروبية في المنطقة العربية.
ولم يؤخر تنفيذ هذه المخططات الاستعمارية إلا بزوغ دولة محمد علي الكبرى في مصر والشام والسودان، وصعود قوته الى الدرجة التي هددت سطوة الدولة العثمانية ذاتها خاصة بعد أن زحف بجيوشه تجاه الاستانة، فتصدى الغرب الاستعماري له ولمساندة الدولة العثمانية مؤقتا بهدف احتواء قوته الصاعدة وإرجاعه الى داخل حدود مصر عبر اتفاقية لندن عام 1840م.
وكان ذلك الخطوة الاولى لإضعاف كل من الدولة العثمانية ودولة محمد علي تمهيدا للانقضاض عليهما في أواخر القرن التاسع عشر بعد رحيل محمد علي وضعف خلفائه من أبنائه في الحفاظ على قوة دولته فضلا عن استمرار تراجع الدولة العثمانية التي باتت تسمى "الرجل المريض"، مما فتح الباب لتقدم الاستعمار الأوروبي بقيادة بريطانيا وفرنسا للاستيلاء على مناطق واسعة من العالم العربي ومكنهم لاحقا، مع بداية القرن العشرين من توقيع الاتفاقية السرية "سايكس – بيكو" بين بريطانيا وفرنسا والتمهيد لتنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين.
وهكذا، كان مطلع القرن العشرين الذي شهد ابرام "اتفاقية سايكس - بيكو" عام 1916 تدشيناً لعصر تنفيذ المؤامرة الاستعمارية الغربية الكبرى لتقسيم الوطن العربي وإيجاد حدود اصطناعية بين مناطقه على نحو يحول دون تحقيق الوحدة العربية في أي وقت من الأوقات مع غرس "اسرائيل" في قلب العالم العربي لتضمن استمرار تقسيم المشرق العربي عن مغربه، والحيلولة دون وحدة الامة العربية.
وهو الأمر الذي تكرس من خلال مشاريع الخداع الاستعماري التي نفذتها بريطانيا ضد الثورة العربية الكبرى التي قادها الشريف حسين بن علي انطلاقا من بلاد الحجاز، وكان الهدف الأساسي لهذه المخططات هو استغلال التطلعات القومية العربية في الاستقلال عن هيمنة الدولة العثمانية لإضعاف الدولة العثمانية وتمزيقها ابتداء، ومن ثم الاتجاه لتقسيم وتمزيق الوطن العربي ذاته والحيلولة دون وحدته وإجهاض ثورة الشريف حسين وتطلعاتها الوحدوية وهو ما كرسته اتفاقية "سايكس - بيكو" السرية الملعونة عام 1916، وتلاها وعد بلفور المشئوم عام 1917 لغرس الكيان الصهيوني في قلب العالم العربي.
ولقد بات معروفاً، أن الدافع وراء هذه المؤامرات الاستعمارية كان إدراك الغرب الاستعماري أن وحدة العرب وصعود قوتهم عبر انشاء دولة موحدة تمتد من المحيط الى الخليج سيشكل أكبر تهديد لهيمنة الغرب الاستعماري وحضارته المهيمنة على العالم، لأن العرب بمقوماتهم الحضارية والدينية وثرواتهم المتنوعة قادرون على صياغة حضارة زاهرة ومتقدمة يمكن ان تشكل تحديا حقيقيا لسطوة الغرب.
ورغم استقلال معظم الدول العربية عن الاستعمار الأوروبي في النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أن الجميع يعرف لأن المؤامرات الغربية على العالم العربي قد استمرت عبر تأجيج الصراعات بين الدول العربية، وتفجير الخلافات الحدودية فيما بينها، يضاف الى ذلك التصدي بكل قوة لمشروع الزعيم جمال عبدالناصر لتوحيد الأمة العربية وقد اتضح ذلك جليا من خلال دعم الغرب "لاسرائيل" في عدوانها على الدول العربية عام 1967، واحتلالها لأراض في مصر وسوريا وفلسطين والأردن ولبنان وتراخي الغرب في دفعها للانسحاب من هذه الأراضي المحتلة على مدى أكثر من 45 عاما.
التجزئة
والمخططات الصهيونية
وإذا كان مشروع "اتفاق سايكس - بيكو" لتقسيم الوطن العربي، قد تم غالبا عبر خرائط اعتمدت على أسس جغرافية حكمتها الأطماع الاستعمارية في ذلك الوقت، فإن الجديد في المؤامرات الغربية بهدف تقسيم وتجزئة العالم العربي مع مطلع هذا القرن الواحد والعشرين يتمثل في الإيغال في معايير التجزئة والتفتيت والتفكيك والتقسيم في خريطة العالم العربي بحيث انتقل المخطط التقسيمي من خرائط وحدود بين الدول الى تقسيمات في داخل حدود الدول ذاتها.
ولم تعد الحدود الاستعمارية التي صاغتها اتفاقيات "سايكس – بيكو" هي المقياس للإبقاء على وضعية الدول العربية الحالية، فهناك من يتحدث عن تحويل الدول العربية الـ(22) الأعضاء في الجامعة العربية حالياً، إلى نحو 50 كياناً قزمياً ودويلات صغيرة، ويجري الاعتماد في ذلك على التقسيم من منظور المكونات العرقية والطائفية والمذهبية والدينية وفق مقولة (تقسيم المقسم، وتجزئة المجزأ).
وفي الحقيقة ان هناك جذورا قديمة لهذه المخططات التفكيكية تعود إلى فجر الاستقلال العربي في حقبة الخمسينيات، وذلك في أعقاب نشأة الكيان الصهيوني على أرض فلسطين عام 1948، وكانت الدوائر الصهيونية تقف وراء الترويج لهذه المخططات الرامية الى تقسيم العالم العربي الى مزيد من الكيانات الطائفية والعرقية والمذهبية.
وقد انصبت المخططات الصهيونية في هذا الاتجاه منذ وقت مبكر في الخمسينيات على البدء بتقسيم لبنان إلى كيانات طائفية، رأت الدوائر الصهيونية أن تكون البداية عبر السعي لإنشاء كيان ماروني في لبنان، تمهيدا لإطلاق عجلة الدومينو لمزيد من التقسيم بإنشاء كيانات درزية وشيعية وسنية في لبنان أيضاً.
ويرى كثيرون أن تفجير الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 قد تم بمخطط "اسرائيلي" - أمريكي باركه هنري كيسنجر وزير الخارجية الأمريكي آنذاك لأنه رأى في ذلك سبيلاً لإضعاف منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت قد انتقلت الى لبنان بعد أحداث أيلول الأسود عام 1970 في الأردن، من ناحية، ومن جهة أخرى تحويل لبنان إلى نموذج للتقسيم الطائفي والمذهبي في المنطقة بما يساعد "اسرائيل" على البقاء في المنطقة في إطار من الشرعية الوجودية ككيان يهودي وسط خريطة من الفسيفساء أو الموازييك المفتت من كيانات طائفية ومذهبية وعرقية، تعج بها الخريطة السياسية لـ"منطقة الشرق الأوسط"، كما أن "اسرائيل" يمكن أن تجد من خلال هذه الكيانات العرقية والمذهبية القزمية من هو على استعداد للتعاون والتحالف معها في مواجهة الكيانات القزمية الأخرى، مما يزيد من الهيمنة الإقليمية "لاسرائيل" في المنطقة ويساعدها أيضاً على تأجيج الصراعات بين هذه الكيانات القزمية لتكون هي اللاعب الوحيد المستفيد من إدارة شبكة الصراعات بين كيانات المنطقة المتشتتة والهزيلة، بما يضمن لها الهيمنة والبقاء لأمد طويل في المنطقة. وقد كان مشروع إنشاء كيان ماروني في لبنان هو مفتاح تنفيذ هذه الاستراتيجية الصهيونية الاستعمارية في المنطقة العربية.
وقد تحدثت بإسهاب عن هذه المخططات الوثيقة السرية "الاسرائيلية" التي كان عنوانها: (استراتيجية اسرائيل في الثمانينيات)، والتي جرى كشف النقاب عنها في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي تقريباً، والتي تحدثت باستفاضة عن مخططات "اسرائيل" لتقسيم المنطقة العربية على أسس طائفية وعرقية ومذهبية شملت تقسيم العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان ودولا أخرى.
وقد تحدث المؤرخ والمستشرق الأمريكي (برنارد لويس) أستاذ التاريخ في جامعة برنستون، والمقرب من دوائر صنع السياسات والمخابرات الأمريكية في عدد من الدراسات عما أسماه "إعادة رسم خريطة العالمين العربي والإسلامي" على أسس طائفية ومذهبية وعرقية تنفيذاً للمخططات الاستعمارية الغربية الجديدة الرامية لتفتيت الوطن العربي.
هجمة
"الفوضى الخلاقة"
ويلفت النظر أن "المحافظين الجدد" الذين تولوا السلطة في عهد جوج بوش الابن كانوا في غاية الحماسة لإحكام السيطرة الأمريكية على العالم العربي عبر تنفيذ مخططات التقسيم الطائفي والعرقي انطلاقاً من رؤية (برنارد لويس لخريطة الشرق الأوسط الجديد)، عبر استراتيجية ما سمي "الفوضى الخلاقة" والتي روجت لها (كوندوليزا رايس) وزيرة الخارجية الأمريكية في عهد جورج بوش الابن حتى أن البعض كثيراً ما يقرن خطة "الفوضى الخلاقة" بـ(كوندوليزا رايس)، في حين أنها كانت مخطط "المحافظين الجدد" الذين سعوا لاحتلال العراق تمهيدا لتقسيمه إلى كيانات طائفية وعرقية وهو ما عمل له بكل قوة (بول بريمر) الحاكم الأمريكي للعراق في بداية احتلاله، وسعى لتكريسه من خلال مؤسسة الحكم الانتقالي ثم في الدستور العراقي والعملية السياسية التي تم تنفيذها في إطاره ومازالت فصولها تتوالى حتى الآن، بحيث بات الحديث عن عودة العراق الموحد حلماً ومشروعاً وأملاً يجري العمل على استعادته من قبل القوى العروبية المقاومة في العراق.
وقد تحدث "المحافظون الجدد" في أدبياتهم وكتاباتهم بكل سفور ووقاحة عن مخططهم الذي يهدف إلى تمزيق الدول العربية الكبرى، فبعد العراق سيأتي الدور على تقسيم كل من سوريا والسعودية ومصر التي اعتبروها الجائزة الكبرى لمخططهم الشرير.
وقد أدت الفوضى التي عمت العراق بعد احتلاله، وعجز القوات الأمريكية عن السيطرة على الأوضاع فيه، واندلاع موجات من المقاومة العراقية إلى عرقلة المشروع التوسعي الأمريكي في العراق، وعدم اكتمال خطة "المحافظين الجدد" في الامتداد إلى سوريا، وظهرت الأفكار الداعية لانسحاب القوات الأمريكية من العراق بعد ازدياد كلفة الاحتلال الأمريكي هناك على الاقتصاد الأمريكي.
وجاء عهد باراك أوباما ليدشن فكرة الانسحاب التدريجي للقوات الأمريكية من العراق وأفغانستان، لكن من الواضح أن الدوائر الاستراتيجية والمخابراتية الأمريكية مازالت تعمل على تنفيذ أجندة "المحافظين الجدد" تجاه تعميق الانقسامات والتقسيمات الطائفية والعرقية والمذهبية في المنطقة العربية، باعتبار ذلك مخططاً استراتيجياً للدوائر الأمريكية يساعدها على بسط هيمنتها على المنطقة العربية، وخدمة الأهداف "الاسرائيلية" الرامية إلى مزيد من إضعاف العالم العربي والقضاء نهائياً على فكرة الوحدة العربية.
وهنا تتلاقى المصالح الأمريكية مع الغايات والأهداف الاستراتيجية "الاسرائيلية"، فتنفيذ مخططات إعادة صياغة الخريطة السياسية للمنطقة العربية باتجاه مزيد من التفكيك والتقسيم والتفتيت يحقق الأهداف الأمريكية و"الاسرائيلية" معا في استمرار الهيمنة على هذه المنطقة، ومنع بزوغ مشروع حضاري عروبي توحيدي يعيد المكانة الحضارية للأمة العربية الأمر الذي يعتبره الغرب و"اسرائيل" وأمريكا تهديداً مصيرياً للهيمنة الاستعمارية الغربية في المنطقة العربية والعالم.
وقد كان لافتاً للنظر، في الآونة الأخيرة، قيام صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية بنشر دراسة أعدها الباحث الأمريكي (روبين رايت) من (معهد السلام الأمريكي) ونشرت في سبتمبر 2013 تحت عنوان: (تخيل إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط).
تحدثت فيها الدراسة بكل وضوح عن سيناريوهات تترجم سعي الولايات المتحدة إلى تقسيم 5 دول عربية هي: السعودية وليبيا واليمن وسوريا والعراق إلى 14 دولة، وأن هذا المخطط هو ما يساعد على خدمة المصالح والأهداف الأمريكية في المستقبل.
وتتضمن هذه
السيناريوهات إنشاء دولة للأكراد تدمج أكراد سوريا والعراق فيما سمي كردستان في
شمال العراق وشرق سوريا، كما تشير إلى امكانية إنشاء دولة تسمى "سنة ستان" تشمل
السنة في العراق وسوريا من خلال الاندماج عبر الحدود بين البلدين، وتشير إلى إنشاء
دولة "شيعة ستان" في جنوب العراق مع إمكانية امتدادها إلى أجزاء في دول الخليج
العربي لاحقاً على أسس مذهبية.
يضاف إلى ذلك إمكانية إنشاء دولة في جنوب غرب سوريا باسم "جبل الدروز".
وتشير الدراسة أيضاً إلى إمكانية العودة إلى تقسيم اليمن إلى دولتين في الشمال والجنوب، فضلاً عن إنشاء كيان للشيعة يقوده التمرد الحوثي في شمال اليمن.
وتشير أيضاً إلى إمكانية تقسيم ليبيا إلى الولايات الثلاث قبل الاستقلال المتمثلة في طرابلس في الغرب وبنغازي في الشرق بالإضافة إلى فزان وسبها في الجنوب.
أما السعودية فيتم تقسيمها حسب ما أوردته الدراسة إلى خمس دويلات على أسس قبلية وطائفية مع إمكانية إنشاء دويلة إسلامية مقدسة على غرار الفاتيكان في الأماكن المقدسة في مكة المكرمة والمدينة المنورة.
ويجب أن نشير هنا، إلى تعدد الكتابات التي تتحدث عن مشاريع أمريكية وصهيونية لمحاولة، تقسيم مصر، وتتحدث الكتابات عن إنشاء دويلة في شرق مصر تضم الدلتا وسيناء تخضع للنفوذ الصهيوني، وإنشاء دويلة للأقباط تمتد من وسط الصعيد عبر الصحراء الغربية حتى الاسكندرية بحيث تكون الاسكندرية عاصمتها، يضاف إلى ذلك إنشاء دولة نوبية في جنوب مصر يجري ضمها إلى النوبة في شمال السودان لتكوين دويلة تسمى "نوبستان".
وبالطبع تمتد مخططات إعادة تقسيم الوطن العربي إلى السودان الذي يجري استهداف إنشاء 4 دول على الأقل فيه بدأت مع انفصال الجنوب وإنشاء دولة جنوب السودان، وبالإضافة إلى دولة "نوبستان" في الشمال يجري إنشاء دولة سودانية إسلامية عاصمتها الخرطوم وهي تشمل الشمال والعاصمة المركزية حالياً، مع خطط لإنشاء دولة في دارفور غرباً، وهناك أحاديث أخرى عن إنشاء كيانات في شرق السودان على الحدود مع إثيوبيا بالإضافة إلى كردفان.
وتشمل تلك المخططات التقسيمية أيضاً دول المغرب العربي وتتمحور حول إنشاء دولة تضم "الأمازيغ" أو البربر في دول المغرب العربي، وإنشاء دولة صحراوية للبوليساريو بين المغرب والجزائر وتنطوي هذه المخططات على إعادة النظر في بعض الكيانات والدول العربية القائمة بإمكانية دمجها أو ضمها إلى كيانات أخرى قائمة أو يجري استحداثها على أسس طائفية ومذهبية وعرقية تشمل منطقة الخليج العربي وبلاد الشام بالإضافة إلى المغرب العربي.
العرب
والتحديات الاستراتيجية
وفي ضوء هذه المعطيات جميعاً لا بد من الإشارة إلى النقاط المحورية التالية:
أولاً: إن المخططات الأمريكية لإعادة تقسيم الوطن العربي هي مخططات تصوغها دوائر استراتيجية بالاستعانة بمراكز الأبحاث الأكاديمية والتخطيط الاستراتيجي، والواضح لنا أن مخططات "الفوضى الخلاقة" التي دشنها "المحافظون الجدد" مازالت تتواصل في المنطقة العربية في عهد الرئيس الديمقراطي باراك أوباما الذي قيل أنه يتبنى استراتيجية انسحابية من "الشرق الأوسط" ويسعى إلى تركيز الاهتمام الأمريكي على الصراع في المنطقة الصاعدة سياسياً واقتصادياً في المحيط الهادئ وشرق آسيا.
لكن الأمر المؤكد أن أي إدارة أمريكية ستظل منخرطة بقوة في أوضاع "الشرق الأوسط" حتى ولو تراجعت الاهتمامات الأمريكية بها، وذلك بفعل تأثير اللوبي الصهيوني وسعي أمريكا لـ"حماية أمن اسرائيل" وليس فقط من أجل حماية المصالح النفطية العربية في المنطقة.
لذلك يجب أخذ المخططات الأمريكية لتقسيم العالم العربي على أسس طائفية وعرقية على محمل الجد خاصة وقد رأينا النتيجة المباشرة لذلك في العراق، وفي الإصرار الأمريكي على دعم انفصال جنوب السودان.
ثانياً: أظهرت الحقائق الملموسة أن التراخي أو التقاعس الأمريكي في مواجهة المجازر الدموية التي نفذها نظام بشار الأسد ضد شعبه بهدف إجهاض الثورة السورية، كان تراخياً مقصوداً وعن عمد، لأن ذلك يخدم الأهداف الأمريكية في نشوء أوضاع متأزمة ومتفاقمة تقود إلى تقسيم سوريا على أسس طائفية وعرقية ومذهبية من خلال تأجيج مشاعر الكراهية بين مكونات الشعب السوري، مثل بروز الحديث عن إنشاء دويلة علوية على الساحل السوري تسمى "علوي ستان"، وإنشاء دويلة للأكراد في الشرق والدروز في الجنوب الغربي وإلحاق سنة سوريا بسنة العراق لإنشاء دويلة "سنة ستان".
وهكذا بدون الحرب الأهلية المدمرة التي شهدتها سوريا كان من الصعوبة بروز هذه الأفكار وطرحها كحلول للمحنة السورية الراهنة.
ثالثاً: إن أسوأ ما في المشهد السياسي العربي الراهن، هو نجاح أمريكا في استغلال التطلعات العربية المشروعة نحو الحرية والديمقراطية والتخلص من الاستبداد في دفع المجتمعات العربية للدخول في صراعات وحروب أهلية مدمرة يجري في إطارها تمهيد الأرضية لمشاريع التقسيم وتجزئة الأوطان، وصياغة خرائط جديدة تقوم على أفكار تعزز التقسيم وتشجع على الانفصال باعتبار ذلك الخيار العملي للخروج من دوامة الصراعات الدامية في المجتمعات العربية وخاصة في بلدان ما أطلق عليه "الربيع العربي".
فالتقسيم الآن يطرح باعتباره الحل العملي للمحنة السورية، في ظل عدم قدرة كل الأطراف على حسم الصراع عسكرياً بما في ذلك النظام الذي يستخدم كل أسلحة الحرب لديه دون قدرة على حسم الصراع، وفي ظل تقاعس الغرب عن دعم المعارضة السورية بحيث بات "الجيش السوري الحر" تقريباً أضعف الأطراف في دوامة الصراع في سوريا حالياً، مع صعود للقوى المسلحة المتطرفة ومنها أتباع "تنظيم القاعدة" في خريطة الصراع في سوريا حالياً.
وفي اليمن، وفي حين نجحت القوى السياسية في الوصول إلى صيغة لإنجاح الحوار الوطني استناداً للمبادرة الخليجية، تدخلت قوى اقليمية مثل إيران لتأجيج الأوضاع هناك عبر دعم الحوثيين، بحيث بات التمرد الحوثي يدق أبواب العاصمة صنعاء, مؤخراً، بما يحول دون استمرار خطة الحفاظ على الوحدة الوطنية، ويعيد خلط الأوراق في الساحة اليمنية، آخذاً بعين الاعتبار تحفظات بعض القوى في الجنوب والتي تتلقى دعماً من إيران على استمرار دولة الوحدة، ومطالبتها بانفصال الجنوب.
رابعاً: إن التقارب الأمريكي - الإيراني سيكون له أوخم العواقب على الاستقرار ووحدة الأوطان في المنطقة العربية، لأن كلا الدولتين أمريكا وإيران تجدان أن مصلحتهما في تأجيج الصراعات الطائفية والمذهبية في المنطقة العربية، بل هناك تحالف عملي بينهما من أجل صعود قوة الشيعة في المنطقة وهو ما برز عملياً في الساحة العراقية ويظهر في المساندة الأمريكية للاحتجاجات الشيعية في دول الخليج وخاصة البحرين والسعودية.
ومن هنا الأهمية البالغة لإدراك عواقب ذلك والتحرك العربي للتصدي لمواجهة المخططات الأمريكية - الإيرانية في هذا الشأن.
خامساً: الملاحظ أن كل القوى الانفصالية والتيارات الانعزالية في الوطن العربي، وكل من يتاجرون بقضايا حماية حقوق الأقليات والحقوق الثقافية للهويات المختلفة نسبياً مع الهوية العربية مثل الثقافة النوبية والامازيغية يجري احتضان الداعمين أو المطالبين اليها في الغرب وخاصة في أمريكا.
ويتم منح أنصار الدعوات الانفصالية (إقامات) في أمريكا ويجري تسهيل عملهم وتوفير الدعم المادي لهم لتحويل تلك المطالب المحدودة إلى قضايا كبرى يجري تبنيها عبر الدوائر الإعلامية والمراكز البحثية والأكاديمية في أمريكا، كما تمارس الولايات المتحدة ضغوطاً لحماية أنصارها في داخل المجتمعات العربية، وتم استغلال الثورات العربية الأخيرة لإظهار هذه العناصر الانفصالية والترويج لها في وسائل الإعلام وفي الأوساط السياسية والحزبية.
وهو الأمر الذي يعني أنه كما سعى الاستعمار الأوروبي القديم إلى استغلال شعارات حماية حقوق الأقليات للتدخل في البلدان العربية في عهد الدولة العثمانية وصولاً إلى احتلالها، فإن الغرب الاستعماري بقيادة أمريكا يلعب من جديد بورقة حقوق الأقليات وتطلعاتها الثقافية للعمل من أجل تمزيق المجتمعات العربية والدول العربية التي قامت ما بعد الاستقلال.
سادساً: أن أحد أسباب معاناة العرب في الوقت الراهن من هذه الاتجاهات التقسيمية، هو تراجع الفكر القومي العربي بفضل الهجمات الضارية التي تعرض لها سواء داخلياً أو خارجياً ومن أعداء الوحدة العربية.
فقد كان الفكر القومي العربي برؤيته الجامعة والشاملة قادراً على احتواء التطلعات والانقسامات الطائفية والمذهبية وتوحيدها خلف السعي للمشروع الوحدوي القومي.
ومن المفارقات أنه في وقت من الأوقات كان الفكر القومي العربي يناهض الدولة القطرية ويناصبها العداء وخاصة في حقبتي الخمسينيات والستينيات ويعتبرها عقبة كأداء في وجه المشروع الوحدوي القومي واصفاً الدولة القطرية بأنها أداة استعمارية لإجهاض حلم الوحدة العربية.
لكن في الوقت الراهن، بات الهم الأكبر لنا ولدعاة الفكر القومي العربي هو كيفية الحفاظ على الدولة القطرية الراهنة والتصدي لمحاولات تفكيكها وتفتيتها عبر النعرات الطائفية والمذهبية والعرقية والمخططات الاستعمارية. فمن المهم الحفاظ على الدولة القطرية العربية الراهنة في وجه المخططات الاستعمارية تفادياً لمزيد من كوارث التجزئة والتقسيم انتظاراً لظروف أفضل تقود إلى نهضة العرب من جديد.
9/2/2014