ناصر في عيد ميلاده الـ(95)

رشاد أبو شاور

اليوم الأربعاء 15 يناير، وفي مثل هذا اليوم ولد جمال عبد الناصر عام 1918، أي قبل 95 عاماً.

لو أنه لم يمت يوم 28 أيلول 1970 - لا اعتراض على قدر الله - في آخر يوم من مؤتمر القمة العربية الذي عقد بناء على طلب منه، لهدف واحد، هو إيقاف الاقتتال في الأردن بين المقاومة والنظام، لكان بعمر مانديلا الذي رحل قبل أيام عن 95 عاما في بلده جنوب أفريقيا، الذي تحرر بقيادته من العنصرية البيضاء.

لما زار مانديلا القاهرة، قال بحزن: جئت إلى موعد تأخر 30 عاماً.

كان المناضل مانديلا على موعد مع الرئيس جمال عبد الناصر، داعم ثورات شعوب أفريقا، وحركات التحرر الأفريقية وقادتها، ومنها ثورة شعب جنوب أفريقيا.

مانديلا الوفي لم ينس دور جمال عبد الناصر ومصر في دعم حركات التحرر، ومنحها حضورا في قلب القاهرة، سياسياً، وإعلامياً، وتدريباً، وتسليحاً، وتمويلاً.

لما حضر مانديلا إلى القاهرة كان يحكمها حسني مبارك، ولم تعد لا قلب العروبة، ولا موئلها، ولا قائدها، ولا نصيرة حركات التحرر الأفريقية، فهي بعد (كامب ديفد) فتحت الأبواب للنفوذ الأمريكي، وبعد حرب تشرين/أكتوبر، تخلت بقيادة السادات عن السيادة على سيناء، وهكذا خرجت من دورها العربي، والأفريقي، والعالمي، وبدلاً من الثوار رحبت بالتجّار!

رحل القائد جمال عبد الناصر وهو في الـ(52) من عمره، يعني في عز الشباب، بعد أن انكسر قلبه من الحمل الذي شاله على منكبيه، ومن ثقل وهول المؤامرات عليه شخصيا كقائد ثوري عنيد، وعلى مصر التي تبوأت مركزاً عربياً، وأفريقياً، وعالمياً مبهراً.

رحل جمال عبد الناصر بعد أن بنى جيش مصر العظيم، وأعده للحظة الفصل التاريخية، لحظة العبور لتحرير سيناء بقوة السلاح، ولتوجيه ضربة قاصمة للكيان الصهيوني تضعه بالضبط في حجمه، وتؤسس لأفوله بالحصار، والمقاومة، وعملية خنق طويلة المدى يسهم فيه كل العرب، ولا سيما عرب دول الطوق.

لم يكن ناصر القائد الذي يرضى بالهزيمة، وينكسر أمامها، ولذا أعاد البناء، وسد كل ثغرات الضعف التي كشفتها هزيمة حزيران 67، وواصل العمل ليل نهار مع قيادات عسكرية متميزة إبداعا، وممارسة، يتقدمها الفريق عبد المنعم رياض الذي استشهد وهو يواجه مع قواته جيش العدو الرابض شرقي قناة السويس، والفريق أول محمد فوزي قائد الجيش وزير الدفاع، وضباط كبار أمثال الفريق الشاذلي، وأبطال قوات الصواريخ، وسلاح الجو، والمدرعات، والمشاة، والبحرية..والشعب المؤمن بالمعركة، والمتحفز لخوضها رغم الخسائر في مدن قناة السويس، وتهجير أهلها الاضطراري حماية لأرواحهم.

رحل جمال عبد الناصر يوم 28 أيلول، في نفس يوم (الانفصال) الذي مزق وحدة مصر وسورية يوم 28 أيلول 1961، بتآمر قوى معادية متحالفة أخافتها وحدة القطرين الذين كانا سيجلبان الانتصار للأمة، ويحميانها، وينقذانها، تماماً كما فعلا من قبل في مواجهة الصليبيين والمغول.

كان ناصر يحلم ويعمل لبناء نهضة عربية بالمقاومة، والوعي، والانتماء، وبالزج بطاقات ملايين العرب في ميدان المواجهة، وكان في صراع حاد مع تحالف أعداء الأمة: أمريكا، ودول الاستعمار القديم: بريطانيا، وفرنسا، ودول الرجعيات العربية المتآمرة تتقدمها السعودية.

من عاش في ذلك الزمن، زمن المواجهة، يعرف أن أعداء الأمس لم يتغيروا، وأنهم حلف واحد في مواجهة أمتنا العربية، وأن الكيان الصهيوني هو في القلب من ذلك التحالف الذي يموله النفط العربي، وما يزال يموله حتى يومنا هذا، وعلناً، وبدون خجل، أو مداورة، ويدفع بقوى التخلف والجهل للمزيد من تمزيق وطننا العربي الكبير.

ما كان لناصر أن يُخرج العرب من زمن الانحطاط في سنوات، أو عقود، فالمهمات ثقيلة، والانتصار المؤزر لن يتم في سنوات بيسر، ولكنه بدأ بخطوات ترسي المسيرة للمستقبل، وتبشّر بالخروج من أزمنة الانحطاط والتخلف والفُرقة، وتضع حجارة الأساس للبناء القومي العربي الشامخ الذي يضمن للأمة مستقبلا تستحقه بجدارة، بكفاحها، وطول نفسها، وبوعي وصلابة قياداتها التي تتسلم الراية جيلاً بعد جيل.

(شبح) ناصر والناصرية عاد بإلحاح، بعد تفجر الحراكات الشعبية العربية، وأعداء الأمة يعرفون أن هذا الأمر ليس مجرد حنين للقائد وزمنه، ولكنه سعي لإعادة طرح (جدول أعمال) الأمة، وأهدافها، من جديد، واستئناف مسيرة الكفاح الثوري الذي لا بديل عنه، للخروج من الزمن العربي الرديء الذي استفحل بفساد أنظمة الإقليميات والتبعية.

ليس مجرد حنين ما نراه، ولكنه تطلع إلى عودة مصر لسدّة القيادة، والدور، والريادة، والتعافي من زمن الخراب الذي دشنه السادات في كامبد ديفد، بعد زيارته المخزية المتخاذلة التآمرية (للكنيست) الصهيوني، وخروجه على الأمة كلها، وفي مقدمتها شعب مصر العظيم، وبيعه لدور مصر، وفتحه لأبوابها للفساد الاقتصادي الذي أنهكها، وحكّم بها السماسرة والتجار والانعزاليين الذي صغّروا دور مصر، وبخسوها قدرها.

مصر في مخاض عظيم، قاس ودام، ولكنها بالحتم ستخرج منه منتصرة، وستصفي كل عوامل ضعفها، وتغييبها، وستستأنف مسيرتها التي بترت على مدى أربعين عاماً.

لقد اكتشف شعب مصر العظيم أن (سيناء) لم تحرر، وأنها محتلة بقواعد رقابة أمريكية، ومكبلة باشتراطات صهيونية، تحرم جيش مصر العظيم من بسط سيطرته الوطنية عليها، وأنها باتت وكرا للقتلة، وقطاع الطرق، ومهربي المخدرات.

لقد شعر شعب مصر العظيم بأن (المساعدة) الأمريكية غير بريئة، وأنها تكبل إرادة مصر، وترتهنها، وتهين كرامتها، عندما أعلنت إدارة أوباما حجبها عقابا على خيارات شعب مصر.

من خربوا مصر في الأربعين سنة الماضية ماتوا اغتيالاً عقاباً على غدرهم بمصر شعباً وجيشاً، آو يرسفون في السجن مبهدلين مهانين.

جمال عبد الناصر الذي قاد ثورة في الوعي، وأضاف لحركات التحرر في العالم بعداً اجتماعياً، فلا يكتفي بطرد المستعمر، ولكنه يعيد الأرض للفلاح، والمصنع للعامل، ويفتح أبواب المدارس والجامعات لأبناء الفقراء، لتكون المواطنة عدلاً، وانتماءً، وكرامة.

ناصر يعود في الميادين، والساحات، ومبادئه ترفع عالياًَ، والأمر ليس حنيناً، ولكنه خيار وطني وقومي لمصر التي لا بد ستعود مستقلة الإرادة،

وخيارتها مُلك لكل أبنائها، ولا سيما الطبقات الشعبية الفقيرة التي أنهكها النهابون في زمن الانفتاح الذي امتد من أيام السادات حتى آخر أيام مبارك.

مصر ستكون حتما لكل أبنائها دون تمييز بين مسلم ومسيحي قبطي، فالمواطنة لا تمنح بحسب الانتماء الديني.

في يوم ميلاد ناصر الـ(95) ننتظر عودة مصر لتكون الموئل، والمرجع، والسند، كما كانت في زمنه، لكل العرب الأحرار، ولا سيما لمن لن يفرطوا بعروبة فلسطين، ولمن لن يتخلوا عن الطموح لوحدة ونهضة أمتنا العربية، الذين هم على موعد مع المستقبل، كما كان يردد دائماً، وحتى النفس الأخير.

15/1/2014