التاريخ المسخرة

أحمد برقاوي

كتب ماركس في كتاب الثامن عشر من (برومير بونابارت) يقول: "يقول هيجل في مكان ما إن جميع الأحداث والشخصيات العظيمة في تاريخ العالم، إذا جاز القول، تظهر مرتين. وقد نسي أن يضيف المرة الأولى كمأساة والمرة الثانية كمسخرة… إن الناس يصنعون تاريخهم ولكنهم لا يصنعونه على هواهم، إنهم لا يصنعونه في ظروف يختارونها هم بأنفسهم بل في ظروف يواجهون بها وهي معطاة ومنقولة لهم مباشرة من الماضي، إن تقاليد جميع الأجيال الغابرة تجثم كالكابوس على أدمغة الأحياء وعندما يبدو هؤلاء منشغلين فقط بتحويل أنفسهم والأشياء المحيطة بهم في خلق شيء لم يكن له وجود من قبل. عند ذلك بالضبط في فترات الأزمات الثورية كهذه على وجه التحديد نراهم يلجئون في وجل وسحر إلى استحضار أرواح الماضي لتخدم مقاصدهم، ويستعيرون منها الأسماء والشعارات والقتالية والأزياء لكي يمثلوا مسرحية جديدة على مسرح التاريخ العالمي في هذا الرداء التنكري الذي اكتسى بجلال القِدم وفي هذه اللغة المستعارة".

ولعمري إن استحضار أرواح الماضي اليوم في حفلة تنكرية تسعى لأن تقتل الوجه الحقيقي لثورات الحرية ليدل على هزيمة من يعاند التاريخ بوصفه مسار الحرية ووعي الحرية.

يظهر التاريخ المسخرة في الحفلة التنكرية التي يحضرها من استفاقوا على هشاشة وجودهم الآني، فراحوا يتوسلون من الماضي أردية ولباساً يظهرون فيه بوصفهم امتدادا للتاريخ وثأراً منه. بالأمس وقف نوري المالكي خاطباً وكأنه في ساحة المعركة القديمة في كربلاء ودون أن يرف له جفن قال: "الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد، هاهم اليوم (موجودين) - يقصد موجودون – "الحسن مازال موجوداً"، "أنصار يزيد وأنصار الحسين مرة أخرى يصطدمون في مواجهة شرسة عنيدة وهذا يعطينا رؤية إن الجريمة التي ارتكبت بحق الحسين لم تنته بعد، وإنما مازالت فصولها التي نعيشها اليوم من الإرهابيين"!.

وقبل ذلك أجرى الصحفي علوني لقاءً مع زعيم "جبهة النصرة" (الفاتح أبو محمد الجولاني) الذي قال: "جبهة النصرة نتاج لتاريخ طويل من الجهاد منذ زمن محمد (ص) وكانت صحابة الرسول ينتظرون ويتوخون هذا اليوم الذي نشهده وأن يكونوا جنوداً بيننا".

"قال خِر لي يا رسول الله.. قال عليكم بالشام". "إعادة حكم الله على الأرض".

وبين الفاتح الجولاني والمالكي عشرات المتنكرين بثياب الماضي: حسن نصر الله والعرعور وأيمن الظواهري والصدر والحكيم وأبو بكر البغدادي، ناهيك عن عمائم إيران. كل هؤلاء يمثلون على مسرح الحياة مسرحية تنكرية بحرفية عالية.

يستعيد المالكي حادثة مقتل الحسين الذي لم يباركه ولن يباركه أحدٌ من السنة، فضلاً عن أن اسمه منتشر عند السنة. المالكي - المسخرة يلبس بزة إفرنجية وربط عنق ويترك بعض الشعر في وجهه، ولا ينسى أن يضع في إصبعه خاتماً مرصعاً بالعقيق.

ويقدم خطاباً بوصفه مقاتلاً في صفوف جيش الحسين الذي مازال قائماً دون أن تدركه الهزيمة ضد جيش يزيد الذي مازال هو الآخر زعيماً لم يمت لأهل السنة.

يستحضر المالكي شخصيتين، شخصية يرفعها الشيعة إلى مستوى الرمز الإلهي هو الحسين، وشخصية لا يكاد يذكرها أحد من السنة اللهم إلا في كتب التاريخ، ليجعل احتكاره الطائفي للسلطة معنى غارقاً في القدم واستمرارا لشرعية الحسين في حقه بالخلافة المسلوبة منه. غير أن السني على طريقة (الفاتح أبو محمد الجولاني) ينكر على الشيعي انتسابه للحسين ويعلن أنه أولى به من الفرس قَتَلة عمر.

يظهر الجولاني في التلفزيون وظهره إلى الجمهور كي لا يروا وجهه وكي يضفي على نفسه نوعاً من الوقار والهيبة والسر والغموض، يتحدث بوصفه استمراراً للصحابة ومنفذاً لحديث رسول الله "عليكم بالشام". ثوبه الأسود لا يخفي ساعة في يده مصنوعة في أحد دول أوروبا أو اليابان.

لا ينكر المالكي اسمه ولا يتخذ اسماً حركياً فيبدو عادياً فيما (الفاتح أو محمد الجولاني) اسم حركي مع صفة من صفات الفاتحين ليضفي على شخصيته طابعاً أسطورياً.

بعد يوم على ظهوره تكشف الحياة صورته الحقيقة - شاباً في مقتبل العمر. يتحول الحسين من شخصية سعت لوراثة السلطة إلى شخصية أسطورية تعلن انتصار الدم على السلاح.

يرث نصر الله شخصية الحسين وتصبح كل معاركه في سوريا ملبية لنداء "لبيك يا حسين" ودفاعاً عن مقام السيدة زينب.

إنه "السيد" المنتمي إلى "أهل البيت" والذي يمت بقرابة إلى الحسين ينزل جزءً من غرته على جبهته كما كان يفعل الحسين.

إنه يستغرق استغراقاً مطلقاً بالشخصية المأسطرة. ولهذا فهو أيضاً ذو بُعد أسطوري عند أصحابه، هذا البعد الأسطوري يخفي وراءه سياسية دنيوية بكل معنى الكلمة.

ويقف على النقيض منه شخصية تعلن نفسها أنها منتمية إلى الحسين: إنه أبو بكر البغدادي واسمه معروف إبراهيم بن عواد بن إبراهيم البكري الحسيني زعيم "داعش". عندما يقف حسيني في مواجهة حسيني على أرض المعركة في سوريا يُعقد الانتماء إلى الحسين وينزع الاحتكار عن أحد الطرفين. الحسيني الشيعي أصلاً ضد الحسيني السني أصلاً. أي أن أحفاد الحسين بأزيائهم التنكرية يمثلون على المسرح كوميديا قاتلة. الحسيني الداعشي والحسيني الإلهي وجهاً لوجه على أرض سوريا. وهكذا يصطف أبطال الحفلة التنكرية وجهاً لوجه في وجه الجديد المنشود، بلاد بلا وعي طائفي يعيد التاريخ القديم على نحو كوميدي صنّاع التاريخ- الكوميدي أو المسخرة التاريخية يعيدون سلطة المرجع، الفقيه المرجع.

"آية الله روح الله" الخامنئي فتواه إلزامية كفتوى ابن لادن أو فتوى الظواهري، مع فارق مهم أن الفقيه الشيعي الإيراني رجل دولة كبيرة ذات أهداف خارج حدودها، فيما الفقيه السني سري هارب في جبال أفغانستان أو باكستان. إذا انحدرت قليلاً من قمة الكبيرين ستلتقي بالسجستاني وعصام البرقاوي. السجستاني من بيته المتواضع في بغداد يقود الدفة قليلاً وعند الضرورة، وعصام البرقاوي يفتي من سجنه في عمّان بصلاح هذا السلوك أو ذاك.

الأسير يحاول أن يكون ند حسن نصرالله. في الحفلة التنكرية هنا لا فرق في الجوهر بين لابس العمامة والدشداشة والعباءة من جهة، وبين لابس ربطة العنق على طريقة مرسي من جهة أخرى. التاريخ - المسخرة هو مرحلة من التاريخ قبل أن تستقيم قدماه وتقوى يخلط الحابل بالنابل.

البعثي - العلماني الاشتراكي يورث ابنه السلطة، الابن - المودرن - الذي يرتدي الجينز ويرث دولة بعثية في الظاهر، يستنجد بصاحب "ولي الفقيه" وما شابه ذلك. الزعلان من مقتل الحسين حتى الآن يقتل مدينة كاملة اسمها القصير، ويعلن فرحاناً عبر لافتة ترفع على مئذنة أحد المساجد مكتوب عليها: "لبيك يا حسين" ويعلن العلماني الديمقراطي أن "داعش" ليست إرهاباً. حتى يتساءل المرء: أتراه العلماني شريكاً في هذه الحفلة التنكرية!

الوحيد الذي يكافح خارج هذه اللعبة هو الشعب الذي قرر أنه يريد إسقاط النظام. قد تكون هذه الحفلة التنكرية بأثواب الماضي ضرورية لانكشاف الوجه الحقيقي للتاريخ. وجه الإنسان غير المتنكر بالماضي إنسان المستقبل والحرية.

* كاتب فلسطيني وأستاذ الفلسفة في الجامعات السورية

"العرب" لندن 29/12/2014