أطماع فرنسا في القرن الأفريقي تعود تحت راية مكافحة الإرهاب
ثروات القارة السمراء تثير لعاب الفرنسا حيث أبدت اهتمامها بالمنطقة عبر التدخلات العسكرية التي كان ظاهرها إنساني وباطنها مصلحة إستراتيجية
لندن - تشهد الأوضاع في معظم دول شمال أفريقيا ومنطقة الساحل اضطرابات جيوسياسية سببت أزمات بدرجات متفاوتة في دولها، الأمر الذي شكل تهديدات كبيرة على المصالح الأوروبية الحيوية، والفرنسية بشكل خاص.
في أواخر العام الماضي، أعلنت فرنسا عن إعادة تنظيم قواتها العسكرية في الصحراء والساحل الغربي الأفريقي في مؤشر على تغيير في استراتيجيتها العسكرية في القرن الأفريقي وعلى نحو يتيح تواجداً إقليمياً أكثر قوة، رداً على تزايد التهديدات المتطرفة في تلك المنطقة، وهو ما ظهرت بوادره في مالي، وبعدها في أفريقيا الوسطى، بعد التدخل العسكري على أراضيها، في ظل أزمات سياسية كبيرة تعصف بالبلدين.
ولكن المتتبع للسياسة الفرنسية تجاه أفريقيا يدرك أن القارة السمراء لطالما كانت تشكل إحدى أهم دوائر السياسة الخارجية الفرنسية وهذا ما يبرر التدخلات العسكرية المكثفة التي تقوم بها في أفريقيا.
ارتباطات تاريخية
التدخل الفرنسي في بؤر التوتر في القارة الأفريقية، لم يكن جديداً، فهو يمتد منذ عشرات السنوات، و يرجع إلى ارتباط فرنسا تاريخيا بمستعمراتها الأفريقية ومصالحها الحيوية والإستراتيجية هناك، ومع اندلاع "ثورات" الربيع العربي في بعض دول شمال أفريقيا، ساهم انفلات الأوضاع الأمنية التي خلفتها المرحلة الانتقالية في تلك الدول، في نشوء خلايا متشددة تنشط عبر الحدود المشتركة في الصحراء، وتنسق مع الخلايا الأخرى في دول الساحل الأفريقي، وهو ما دفع فرنسا إلى تكثيف دورها العسكري خاصة بعد تهديد "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" و"أنصار الشريعة" و"بوكو حرام" ومختلف الجماعات المتشددة الأخرى، بالقيام بالعديد من الهجمات ضد السفارات الأجنبية والمنظمات غير الحكومية والمصالح التجارية في السنوات الأخيرة.
وقد ظلت منطقة الساحل الغربي الأفريقي، الممتدة من تشاد شرقاً إلى موريتانيا غرباً، تاريخياً تشكل أهمية استراتيجية كبيرة لفرنسا، وغيرها من الدول الكبرى، ويرجع المراقبون ذلك إلى سببين، أولهما، يتمثل في ظهور حركات الإسلام السياسي بمختلف درجاتها، المعتدلة والمتشددة في تلك المنطقة، بداية من دول المغرب العربي في الشمال، مروراً بالجنوب حيث النيجر، ومالي، وأخيرا أفريقيا الوسطى، وجنوب ليبيا، وهو ما تسعى الدول الكبرى إلى تحجيمه ومحاربته، في إطار منظومة أمنية، ترفع شعار "مكافحة الإرهاب".
أما السبب الثاني، فهو يرجع إلى رغبة الدول الكبرى في الاستئثار بالثروات الطبيعية في تلك المنطقة، بما في ذلك اليورانيوم، الذي يستخدم في إنتاج القنبلة النووية، فضلاً عن الماس والذهب، وانطلاقاً من ذلك، حرصت فرنسا على إعادة تواجدها العسكري في المنطقة، وعدم الاكتفاء بتقديم تدريبات أو دعم لوجيستي لجيوش الدول الحليفة في المنطقة، وهو ما ظهر بوضوح في خطاب وزير الدفاع الفرنسي، (جان إيف لودريان)، أثناء زيارته للعاصمة الأميركية واشنطن في يناير/كانون الثاني الماضي، حيث أعلن عن نشر 3000 جندي فرنسي، بصورة دائمة في الإقليم الأفريقي من خلال التمركز في 3 قواعد رئيسية، هي مالي والنيجر وتشاد.
وقد أعلن (لو دريان) أن الأهداف من وراء هذا الانتشار في القارة الأفريقية، هي توفير فرص وجود جيد لفرنسا يمكنها من سرعة الانتشار والاحتواء لمواجهة أي تهديدات تمثلها حركات إسلامية، وتفادي تكرار نموذج مالي، أو حتى أفريقيا الوسطى مؤخراً، ولا تزال مالي بعد عام واحد من تخليصها من براثن تمرد مدمِّر، محاطة بثغرات اجتماعية وسياسية وأمنية عديدة، خاصة أن تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" تمكن من البقاء عقب تدخل كل من فرنسا والاتحاد الأفريقي.
إستراتيجية فرنسية
وقد مرت الإستراتيجية العسكرية الفرنسية تجاه أفريقيا بمراحل وتطورات مهمة عبر عقود، فمن الاحتلال والاستعمار العسكري المباشر في القرنين الـ18 والـ19، إلى إقامة قواعد عسكرية دائمة في بعض الدول المركزية، في مختلف دول القارة، من جيبوتي شرقاً، مروراَ بتشاد، وأفريقيا الوسطي، في الوسط، وصولاً إلى السنغال، والكاميرون، وساحل العاج، والغابون غرباً.
ففي عهد الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، دشنت الخارجية الفرنسية عام 1997 مشروعاً عرف باسم "مشروع أفريقيا"، لإعادة تنظيم التواجد العسكري الفرنسي في القارة السمراء، بحيث يضم خبراء، ومستشارين، أكثر مما يضم وحدات عاملة.
وفي إطار المبدأ الذي وضعه شيراك آنذاك، وهو "التأثير دون التدخل العسكري" بسبب تكلفته مادياً وبشرياً، قلصت فرنسا عدد قواعدها العسكرية في القارة إلى 6 قواعد فقط في دول: جيبوتي وتشاد والسنغال وساحل العاج والكاميرون والغابون وكانت آخر قاعدة تمت تصفيتها في أفريقيا الوسطى أواخر عام 1997.
تعديل طفيف أرساه الرئيس الفرنسي الحالي، فرانسوا هولاند حتى الآن، على مبدأ شيراك، وعرف باسمه "مبدأ هولاند"، ويقوم على فكرة التدخل الفرنسي المحدود، استناد إلى تأييد دولي ومحلي، بهدف ظاهري، وهو الهدف الإنساني وآخر أساسي غير ظاهر، وهو تحقيق أهداف فرنسا، والحفاظ على مصالحها السياسية والاقتصادية، لاسيما في مواجهة نفوذ الدول الكبرى الأخرى، خاصة الولايات المتحدة والصين، وهو ما يمكن أن ينطبق على حالة جمهورية أفريقيا الوسطى.
وابتعد هولاند عن فكرة التدخل القسري، دون الحصول على هذه الموافقات، خاصة المحلية، حتى لا يتكرر سيناريو "عملية تركواز" الفرنسية في رواندا عام 1994، والتي حملت فيها رواندا، عدداً من كبار السياسيين والضباط الفرنسيين، بينهم الرئيس الأسبق فرنسوا المسؤولية عن مجازر عرقية شهدتها البلاد بين الهوتو والتوتسي، وأدت إلى مقتل ما يزيد عن 800 ألف شخص خلال ثلاثة أشهر.
وبالفعل، تم تفعيل "مبدأ هولاند" في مالي، وبعدها أفريقيا الوسطى، عبر قوات محدودة، وبعد الحصول على تأييد محلي من الدولة محل الصراع وإقليمي، متمثل في الاتحاد الأفريقي، وأممي، متمثل في "مجلس الأمن". وتتواجد القوات الفرنسية في مالي التي شهدت اضطرابات أمنية وسياسية كبيرة، بعد سيطرة متمردين إسلاميين على مناطق في الشمال، حيث دخلت إلى جانب قوات الجيش المالي في حرب ضد المجموعات المتشددة التي كانت تسعى إلى السيطرة على أكبر قدر ممكن من المدن، وهذا ما جعل التدخل العسكري الفرنسي يلقى ترحيباً كبيراً من السلطات في مالي.
كما تدخلت في أفريقيا الوسطى بموافقة دولية في ظل الصراعات التي تشهدها البلاد حالياً والاضطرابات السياسية التي تحولت إلى حرب طائفية ذهب ضحيتها أعداد كبيرة من المدنيين وتهجير الآلاف.
الاتجاه الرائج أكثر حول المساعي الفرنسية الظاهرية في حفظ الأمن الأفريقي يخفي نوايا جدية تسعى فرنسا من خلالها إلى بسط هيمنتها الاستعمارية في أفريقيا التي أصبحت اليوم محط اهتمام الكثير من الدول الكبرى، ومن ثمة فرض وجودها في هذه في القارة الغنية بالكثير من الثروات الدفينة، كما يقول بعض المراقبين، الذين أكدوا أن المعركة الحالية التي تقودها فرنسا وبدعم دولي بهدف القضاء على الإرهاب وإحلال السلام في أفريقيا التي تعاني الكثير من المشاكل والحروب الداخلية، ليست سوى مقدمة لمشروع كبير لتغيير خارطة المصالح والثروات العالمية وتوزيعها بين الحلفاء.
"العرب" لندن 21/2/2014