اليرموك يختصر الحكاية
علي بدوان - كاتب فلسطيني - مخيم اليرموك / عضو اتحاد الكتاب العرب
تحدو بنا المأساة الكبرى التي يعيشها الآن مخيم اليرموك الفلسطيني الملامس لمدينة دمشق من جهة الجنوب، للقول إن لُعبَةً سياسية غامضة تَفعل فِعلها الآن من أجل شطب حق العودة وتدمير رمزية هذا الحق وشواهده القائمة بتدمير المخيم والتجمع الفلسطيني الأكبر في الشتات. فمخيم اليرموك يتعرض لمحنة كبرى مُروّعة، فاقت في شدتها كل المحن التي مرت في مسار الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية المعاصرة منذ ما بعد النكبة وحتى اللحظة.
مخيم اليرموك الحاضنة الدافئة للذاكرة الجمعية لشعبٍ شُرِدَ نتيجة مؤامرة نُسجت في غيابه، وتمزيقه الآن وبهذه الطريقة تدمير للحاضنة الأوفى للذاكرة التاريخية، فهو المخيم الحامل لمشعل حق العودة لشعبٍ عنيد، فقد ظل المخيم الفلسطيني شاهدا حياً على مأساة الترانسفير والتطهير العرقي التي جَرت على أرض فلسطين عام النكبة 1948 والتي لم يكن لها مثيل في التاريخ. فظل المخيم يُنتج "زعترا ومقاتلين وساعداً يشتد في النسيان" لتصحيح مسار التاريخ.
تجاذبات
وارتكاسات
والمؤسف في هذا المشهد أن حَجم التداخلات والتداخلات المقابلة فاقت بكثير قدرات وإمكانات الفلسطينيين بشكل عام كشعب وكجهات رسمية وفصائلية في ظل التعقيدات الكبرى التي تُحيط بملف الأزمة السورية المُشتعلة بشكل عام، وكأن القدر كتب على الفلسطينيين أن يكونوا دوماً ضحايا منسيين في صراعات وأزمات (لا ناقة ولا جمل) لهم بها حتى لو اتخذوا أيةَ مواقف كانت، وحتى لو لم ينطقوا بكلمة واحدة وكانوا من الصامتين.
المخيم الصامد، مخيم اليرموك، الذي قَدَمَ جيلاً بعد جيل من أبنائه وبناته للنهوض بالثورة الفلسطينية والحركة الوطنية، وكان مركزاً بارزاً من مراكز الكفاح الوطني والتمسك بالهوية الوطنية، لا يستحق هذا المصير الذي يشهده اليوم. فالمأساة التي مازالت تجرجر ذاتها كل يوم على حال مخيم اليرموك وماتبقى داخله من أبناء الشعب الفلسطيني (20 ألف مواطن تقريباً) مازالت دون أفق حتى تنتهي، ومازالت التجاذبات والارتكاسات هي الحالة السائدة بين مختلف الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية فيما المواطن البريء يدفع تلك الأثمان التي تُثقل كاهل الجبال، ونداء العقل يدعو باستمرار كافة الأطراف في سوريا إلى إبعاد مخيم اليرموك عن جعله ساحة للصراع ورفع الحصار الظالم عنه الذي يكتوي بناره عشرات الآلاف ممن أصرّوا على البقاء في المخيم لأنهم يرفضون تهجيراً آخر، لا يكون باتجاه العودة إلى وطنهم. إن ما يجري بحق مخيم اليرموك، يُلفِتُ انتباهنا لما يجري على الساحة السياسية ربطاً بما يُحاك من أجل شطب حق العودة، فوزير الخارجية الأميركي (جون كيري) وضع قبل أيامٍ خلت وعلى طاولة القيادة الفلسطينية في رام الله أربع خيارات لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين لتكون ضمن اتفاق (الإطار العتيد) والحل الانتقالي، الذي بات الحديث عنه وكأنه خشبة الخلاص للخروج من الحالة المستعصية لمسيرة التسوية المأزومة.
مقترحات جون كيري الأربعة لحل قضية اللاجئين الفلسطينيين الذين يُشكّلون نحو (65%) من التعداد العام للشعب العربي الفلسطيني في الداخل والشتات ليس من بينها أي ذكرٍ لحق العودة، بل كلها تصبُ في مسار المقترحات والحلول الأميركية – "الإسرائيلية" التي تقول بفتح أبواب الهجرة للاجئين الفلسطينيين إلى أصقاع المعمورة الأربع وتوطين أعداد قليلة منهم في دول اللجوء المعروفة بدول الطوق (سوريا، لبنان، الأردن) مع التركيز على تهجير فلسطينيي سوريا وما تبقى من فلسطيني لبنان بشكل خاص. في هذا السياق، إن المعلومات المُتسربة والمؤكدة تشي بأن الوزير الأميركي جون كيري طرح في حلوله الأربعة لقضية اللاجئين الفلسطينيين فتح أبواب الهجرة الواسعة لهم لعدد كبير منهم إلى دول عدة كأستراليا، ومسألة (تخيير) أعداد إضافية كبيرة منهم بين الانتقال إلى (كندا) والعيش فيها أو البقاء حيثما يتواجدون لا سيما في الأردن. كما طرح من بين خياراته إمكانية إدخال أعدادٍ منهم، مُتفق عليها (لاحظوا عبارة مُتفق عليها) للعيش في الدولة الفلسطينية المستقبلية أو الموعودة. كما طرح إمكانية تقديم الجزء القليل منهم طلباً للإقامة في "إسرائيل" (لاحظوا عبارة طلباً للإقامة) والتي بدورها تَدرُسُ الطلب وفق معايير وضوابط تضعها "إسرائيل" بنفسها في إطار إنساني فقط (لاحظوا عبارة إطار إنساني).
لُعبة
الإطاحة بحق العودة
هذه هي أُطروحات وتنظيرات الوزير الأميركي (جون كيري)، وهي أُطروحات تُعيد استنساخ المواقف ذاتها المُعلنة الأميركية و"الإسرائيلية" تجاه حق العودة وتجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين، وهي أُطروحات تنسف جوهر القضية الوطنية التحررية للشعب العربي الفلسطيني، وتُسهِمُ في تبديد واستكمال اقتلاع الهوية الوطنية للعدد الأكبر منه.
إن اللعبة الأميركية – "الإسرائيلية" لا تسعى للإطاحة بحق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أرض وطنهم التاريخي، وهي حقوق أقرّها المجتمع الدولي وقرارات الأمم المتحدة ذات الصلة منذ نشوء حالة التشرد للفلسطينيين ووقوع نكبة العام 1948، بل تَسعَى في الوقت نفسه لدعم وإسناد الموقف "الإسرائيلي" برفض الاعتراف بأية مسؤولية تاريخية وسياسية تجاه قضية اللاجئين الفلسطينيين وتبرئة الدولة العبرية الصهيونية من تلك الجريمة المستمرة في مفاعيلها، وإلقاء المسؤولية على المجتمع الدولي، وبالتالي النَظَر إليها باعتبارها قضية إنسانية لا أكثر ولا أقل، وأن حلولها تَكمُنُ بالتهجير والتوطين وإنشاء صندوق دولي للتعويض عليهم، وكل ذلك (وتلك المصيبة الكبرى) مقابل اعتراف الفلسطينيين بما يسمى "يهودية إسرائيل"، والإقرار بالرواية الصهيونية الميثولوجية اللاهوتية، بدلاً من رواية الواقع والحقيقية الفلسطينية.
وعليه، إن الكارثة التي حلت بفلسطينيي سوريا تطرح من الناحية الموضوعية على السلطة الفلسطينية وعلى كل القوى والفصائل جملة من المهام المستعجلة من أجل بلسمة جراح فلسطينيي سوريا والعمل من أجل إنقاذ مخيم اليرموك وعموم التجمعات الفلسطينية فوق الأرض السورية، كما في إعادة الاعتبار لحق العودة في ظل ما يتعرض له أكبر تجمع لفلسطيني الشتات. وعليها أيضاً عدم الانتظار حتى نهاية المهلة المحددة للمفاوضات وهي أخر شهر إبريل، وإعادة بناء الموقف السياسي على أسس جديدة.
أخيراً، في الأمثال الشعبية الفلسطينية والعربية التي تقول ان المستحيلات ثلاثة: الغول.. والعنقاء.. والخل الوفي.. نقول ونضيف هنا بأن المستحيل الرابع يتمثل في استحالة شطب حق العودة مادامت هُناك مُضغة في رحم أمٍ فلسطينية لاجئة. فاليرموك سيهزُمُ من تأمر عليه، واليرموك أول الرصاص والثورة، سيبقى كما كان طريق العودة لفلسطيني.
22/1/2014