الصَدَع المُوجع

بقلم علي بدوان

من عَجَبِ العِجاب، أن الساحة الفلسطينية مازالت مُنقسمة على ذاتها، فيما العملية السياسية تتسارع من أجل فَرضِ خطة وزير الخارجية الأميركي جون كيري والمعنونة بالحل الانتقالي طويل المدى على مسار (العملية التفاوضية الفلسطينية – الاسرائيلية)، وهي الخطة المذمومة التي يناور الرئيس محمود عباس للهروب منها ومن استحقاقاتها نظراً لما تحمِلهُ من كوارث لاحقة على الفلسطينيين حال تم تمريرها، وخصوصاً منها مجموعة الاشتراطات (الاسرائيلية) التي باتت تتحدث عن يهودية الدولة كشرطٍ لابد منه للقبول بالخطة الأميركية.

ومن عَجَبِ العِجاب أن الجميع في الساحة الفلسطينية ودون استثناء، يتكلم عن الوحدة الوطنية وعن ضروراتها، وأن زمن الانقسام يجب أن ينتهي، الا أن هذا الكلام والسلوك اللفظي مازال في خانة وموقع (الكلامولوجيا) لا أكثر ولا أقل عند من يضع الاشتراطات من بعض القوى والفصائل لانجاز الوحدة الوطنية وإسدال الستار على حالة الانقسام السائدة في البيت الفلسطيني.

ومن عَجَبِ العِجاب أن الخطوات المتسارعة الأميركية لفرضِ الاتفاق، تُواجه الآن بموقف شعبي وفصائلي فلسطيني بالرفض والتحفظ حتى من داخل أُطرِ حركة (فتح)، إلا أن صوت الوحدة الوطنية العملي على الأرض مازال هو الغائب الأكبر، ومازال الحديث عن ضرورة انهاء الانقسام الداخلي حديثاً خجولاً وبشكل موارب، ولم يرتق بعد لمستوى الحدث، ولمستوى مايجري بحق الشعب الفلسطيني من مناورات واستهدافات سياسية لم تَعُد خفية بل مكشوفة وواضحة كل الوضوح.

لقد شكّل الانقسام الفلسطيني الداخلي صدعاً موجعاً للمشروع الوطني الفلسطيني، كما شكّل نقطة علام بارزة أثرت سلباً على مسيرة المقاومة الشعبية وغير الشعبية التي نهضت في فلسطين في ظل الانتفاضتين المباركتين الأولى والثانية، والتي استمرت فيما بعد بالرغم من كل المُعيقات، وبالرغم من حالة الحصار المُطبق على قطاع غزة.

ومن نافل القول، بأن الانقسام الفلسطيني الحالي لم يكن الحالة الانقسامية الطارئة الوحيدة في الوضع الفلسطيني، فقد سَبَقَ وأن مرت الساحة الفلسطينية بانقسامات مُرة، وقاسية، ومأساوية، خلال العقود الماضية من تاريخ الكفاح الفلسطيني، حيث شهدت تلك الانقسامات أحداثاً مؤلمة، سال فيها الدم الفلسطيني في غير مكانه عام 1974، وعام 1976، عام 1979، وعام 1983، وعام 1984، فكانت تلك الانقسامات وبغض النظر عن أسبابها وحيثياتها، مُدانة، ومرفوضة، ومذمومة، ومُدمرة. لكن تلك الانقسامات كانت تُطوى بسرعة قياساً لما هو واقع في الحالة الراهنة حيث مازال الانقسام مستمراً منذ صيف العام 2007 دون أفقٍ لإنهائه حتى الآن.

وبالطبع فان الحديث عن انقسامات سابقة، لا يُبرر وقائع الانقسام الحالي، ولايُشكّل أسبقية له لتسويغه على أرض الواقع، وإنما يأتي الحديث هنا للتذكير مجدداً بأن مُعظم فرسان تلك الانقسامات السابقة كانوا في غالبيتهم هم أسياد الانقسام الحالي المؤلم، ومعهم بعض الفرسان الجدد، وهو انقسام لم يكن ليجد التربة المواتية له لولا مجموعة من الأسباب التي هيأت لاندلاعه ولتكريسه طوال السنوات الماضية. فالبعض من الجسم التنظيمي عند هذا الطرف أو ذاك، مازال مُكابراً ورافضاً في الواقع العملي لاستحقاقات عملية اعادة بناء الوحدة الوطنية واعادة بناء العقد السياسي التاريخي القائم على التشاركية في صياغة وصناعة القرار، ومتمسكاً بلغة وثقافة المكابرة التي ترى بأنه وحده دون غيرها من يمتلك الأحقية التاريخية والشرعية في قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، والتي يراها بيد (مايسترو واحد) يُدير الأمور كما يرى بشقيها السياسي والتنظيمي، جاعلاً من الآخرين شهود زور على سياساته وممارساته ورؤاه التكتيكية وحتى الاستراتيجية.

عدا عن ذلك، فان هناك ممن في موقع القرار عند هذا الطرف أو ذاك ممن لا يريدون للوحدة الوطنية أن تَشُقَ طريقها وأن ترى النور، فهم مُستفيدون من تلك الحالة، وخصوصاً من قادة بعضِ (ونقول بعض) قادة الأجهزة الأمنية (المُتغولة كالإخطبوط) في المجتمع الفلسطيني في الداخل، والذين قد يجدوا أنفسهم خارج المعادلة حال التوصل لاعادة بناء الوحدة الوطنية، ومعهم بعض قادة المفاصل الادارية والسياسية في هياكل السلطة بين الضفة الغربية وقطاع غزة.

وبالطبع، نحن لا ننفي هنا بأن اليد الأميركية والاسرائيلية الطويلة بعيدة عن إدامة حالة الانقسام الفلسطينية الداخلية، بل لا يُسعدُها، بل يُتعسها ويُعرقل مشاريعها، أن ترى الوحدة الوطنية الفلسطينية وقد تم انجاز خطوات ملموسة منها. فالولايات المتحدة تلعب الآن دوراً كبيراً في التحريض على منع قيام وحدة وطنية حقيقية في الساحة الفلسطينية، وفي تسييد المقاطعة الدولية لأي حكومة وطنية فلسطينية موحدة قد تنبثق بين الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي تجفيف مصادر الدعم الخارجي المفترضة للشعب الفلسطيني حال تم إغلاق ملف الانقسام الداخلي في البيت الفلسطيني.

ان الفُرصةِ المُتاحة الآن أمام اغلاق ملف الانقسام مواتية جداً، خصوصاً بالنسبة لحركتي فتح وحماس. فحركة فتح والسلطة الوطنية الفلسطينية تواجه ضغوطاً كبيرة من أجل القبول والنزول عند الموقف الأميركي الداعي للحصول على البصمة الفلسطينية لاتفاق الاطار، والرضوخ للمطالب الاسرائيلية الجديدة خصوصاً بالنسبة لدعوات الاعتراف بـ(يهودية الدولة). كما أن حركة (حماس) تواجه بدورها وضعاً صعباً نتيجة المآلات التي تهيمن على الساحة العربية وتحولاتها الأخيرة، وهو ما أدى لإضعاف دور الحركة نسبياً على كافة الميادين.

وعليه، ان اعادة بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية، وإنهاء الانقسام الداخلي تُشكّل مدخلاً واسعاً وهاماً على طريق مواجهة الضغوط الهابطة على عموم الحالة الفلسطينية في الداخل والشتات وعلى مواقع القرار المسؤول فيها. كما تُشكّلُ مدخلاً لاستثمار كل الأوراق الموجودة باليد الفلسطينية وتفعيلها، وبالتالي في المساعدة على خَلقِ مناخات عربية بعيدة عن منطق لن نكون ملكيين أكثر من الملك. فالموقف الفلسطيني المسؤول والموحد يستطيع أن يَفعَلَ فِعله وأن يَتركَ تأثيراته على الدور العربي الداعم للفلسطينيين بشكلٍ أفضل وأرقى وأعظم مما هو في حال الانقسام.

وخلاصة القول، على الجميع في الساحة الفلسطينية، وبالأخص حركتا (فتح) و(حماس) و(الجبهة الشعبية) و(حزب الشعب الفلسطيني) و(الجهاد الإسلامي) وغيرها من القوى أن تعي خطورة المرحلة، وأن تعي بأن مواجهة الاستحقاقات المطلوبة تفترض سلوكاً نابذاً للتفرد في صياغة وقيادة القرار والنزول عند منطق التشاركية والقبول باستحقاقات الوحدة الوطنية، بما في ذلك نبذ الذاتيات التنظيمية الضيقة لصالح موقف وطني فلسطيني عام. فزمن الذاتيات التنظيمية يجب أن ينتهي لصالح عملٍ جماعي يوحد المواقف والتقديرات والجهود.

5/3/2014