حرب شعبية مقابل حرب نوري الطائفية
عوني القلمجي
لم يعد بإمكان نوري المالكي التستر على نزوعه السلطوي، ولا على ميوله الدكتاتورية. وفي الآونة الأخيرة، أصبح يرى نفسه الأعلى والأوحد الذي يحق له حكم العراق مدى الحياة. هذه الرؤية تحولت، على ما يبدو، إلى قناعة ترسخت في عقله وامتزجت بدمه. وقد نجد تجلياتها واضحة جداً في قتاله المستميت لانتزاع رئاسة الوزارة من غريمه إياد علاوي الذي فاز عليه في الانتخابات البرلمانية السابقة. وبعد نجاحه استمات أكثر في قتاله أمام المطالبة بسحب الثقة منه. وحين شارفت نهاية ولايته الثانية والأخيرة، وأزفت ساعة الرحيل، لعب بالبيضة والحجر من أجل توظيف القضاء (المستقلب) لصالحه وانتزاع حكم منه بمنحه حق الترشيح لولاية ثالثة ورابعة وخامسة.. إلخ. وهذا يعني بلغة المالكي المتدنية، (أخذته وبعد ما انطيها).
الاستطراد هنا له وظيفة، فالمالكي الذي اتصفت شخصيته بهذه الأوصاف ورأى نفسه فوق الآخرين، وأنه الأوحد الذي يحق له حكم العراق، لن يتوانى في استخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل الفوز بولاية ثالثة، حتى إذا تطلب ذلك حرق العراق واستباحة دماء أهله. ولو كانت شخصية المالكي عكس ذلك، أي شخصية سوية ومتزنة، لانسحب بهدوء واحتفظ بماء الوجه. بل كان عليه تقديم استقالته قبل استكمال ولايته، بسبب فشله الذريع في أداء مهمته أو حتى جزء منها.
مع ذلك، فتمسك المالكي بمنصبه، أو التنازل عنه لا يعني شيئاً كثيراً للعراقيين، فالقادم لن يكون أقل سوءا منه إن لم يكن أكثر. لكن الذي يعني شيئاً هو اعتماده على وسائل تؤدي إلى مخاطر جسيمة. بمعنى أوضح، فأن المالكي لجأ هذه المرة إلى إشعال حرب طائفية كوسيلة للفوز بولاية ثالثة، وليس كما اعتمد في السابق على وسائل من قبيل شراء الذمم وإغداق الأموال والتزوير والتهديد واستجداء مواقف المرجعيات الدينية والتعهد بتقديم مزيد من الخدمات للدول ذات التأثير بالقرار العراقي، وبالتحديد أمريكا وملالي طهران.
وكان أكثر ما يؤلم في فعلة المالكي المشينة، هي المبررات التي ساقها وروج لها في خطابات وتصريحات علنية، والتي بموجبها شنت ميليشياته المسلحة هجومها على المنطقة الغربية عموماً وعلى الرمادي والفلوجة خصوصاً. هذه المبررات التي لا يمكن أن يقال عنها، سوى أنها أسوأ أنواع الكذب والدجل والتضليل. إضافة إلى أنها لا تمت بصلة إلى تاريخ شعبنا الذي تعايشت خلاله جميع القوميات والأديان والمذاهب، حتى وصف هذا التعايش بلوحة من الموزاييك. ولا يغير من هذه الحقيقة نجاح أعداء العراق بإثارة النعرات الطائفية في فترات معينة، فهذه سرعان ما يتم وأدها كما حدث قبل عدة سنين بفعل المحتل الأمريكي وتابعه الإيراني.
دعونا نرى نموذجاً من هذه المبررات لهذا المالكي.
"إن أهالي الأنبار السنة قد جعلوا من ساحات الاعتصام غطاء يتسترون به على العناصر التي تقوم بتهيئة وتفخيخ السيارات والانطلاق بها لتفجيرها في المناطق الشيعية، وأن الحديث عن المطالب والمظلومية ليست سوى خدعة؟، وعليه يعلن المالكي بعدها في خطاب علني ومن مدينة كربلاء أن الجنود الحسينيين سيزحفون إلى الأنبار لسحق أتباع يزيد الذين يسكنون هناك ويختبئون في ساحات الاعتصام ويفخخون السيارات ويرسلونها إلى المناطق الشيعية"!!!. وفعلاً زحف "الجنود الحسينيون" إلى محافظة الانبار ولازالت المعارك مستمرة حتى الآن وقد تستمر إلى أمد غير معلوم، ماذا يريد المالكي من حربه الطائفية بامتياز؟
تجارة التهديد والحماية ابتكار أمريكي لابتزاز الدول، جرى العمل بها طيلة الحرب الباردة ولحد الآن. فعلى سبيل المثال لا الحصر، وضعت أمريكا الاتحاد السوفيتي آنذاك العدو أمام دول أوربا الضعيفة عسكرياً، لتتقدم بعدها بعرض الحماية عليها مقابل ثمن. ووضعت دول الخليج في نفس المعادلة، مرة في حالة تقديم العراق في عهد النظام السابق كعدو، وأخرى قدمت شاه إيران ولاحقاً ملالي طهران كعدو، ودفعت دول الخليج ولازالت تدفع ثمن حمايتها. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء خطره على دول أوروبا وضعت الإسلام والمسلمين بدلاً عنه. والمالكي، على ما يبدو، استنسخ الدرس وعمل به. بمعنى أوضح وضع المالكي سنة العراق بموضع العدو، وقدم نفسه "حامي حمى الشيعة" مقابل انتخابه لولاية ثالثة. ولكي يرسخ المالكي المخاوف داخل النفوس صعدت أجهزته ووحداته الخاصة التفجيرات في المناطق الشيعية واتهام السنة بها.
لكن هذا ليس كل شيء، فقد ذهب المالكي أبعد من ذلك، فقيامه بهذه الحرب الطائفية المشينة، لابد وأن تنال مباركة الحلف الثلاثي غير المقدس أمريكا وإيران والكيان الصهيوني، كونها تنسجم مع أهداف الحلف بتدمير العراق وتمزيق وحدته الوطنية، وبالتالي مكافأته بولاية ثالثة. خاصة وأنه لمس بيده عدم رغبة أمريكا وإيران باستمراره بالسلطة. حيث تقوم سياسة أمريكا على عدم السماح لأية كتلة بتجاوز حدودها، والتفكير بانفراد هذا الطرف أو ذاك في السلطة على حساب الآخرين. لأن ذلك يتعاكس ومصالحها التي تقتضي تسويق الحكومة، على أنها حكومة قوية وذات مظهر ديمقراطي. وملالي طهران يريدون ترشيح ممثل عن "مجلس آل الحكيم" الذي يقع تحت إشرافهم وتوجيهاتهم، وهذا ما يفسر موقف تيار مقتدى الصدر ومجلس الحكيم بالوقوف ضد ترشيح المالكي لولاية ثالثة.
دعونا نسترسل أكثر ونحذر من هذه الشخصية غير السوية. فإذا حدث وفشل المالكي في مسعاه، فأنه سيلجأ إلى اشعال الحرائق في كل أنحاء العراق، عبر السيارات المفخخة والقتل العشوائي وافتعال الأزمات أو الاقتتال مع كتل أخرى ناصبته العداء مؤخراً كالتيار الصدري، وربما سيقدم على نسف البرلمان العراقي وقتل أعضائه على غرار ما حدث للبرلمان الإيراني في مطلع الثمانينات، حتى يجد المبرر الكافي، إما لإعلان الأحكام العرفية، وإما إلى تأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، أو كليهما.
نحن إذن أمام حرب طائفية تهدد مستقبل العراق وأهله. ولا يغير من هذه الحقيقة تراجع المالكي في حال هزيمة جيشه "الحسيني"، ووقف الحرب الطائفية، فالنار ستبقى تحت الرماد. وبالتالي فأن إزالة خطر المالكي لا قيمة لها من دون إزالة خطر نفوذ الاحتلال الأمريكي والنفوذ الإيراني. وظني بأن إنجاز مهمة من هذا الوزن يصعب تحقيقها في ظل قيادة شيوخ العشائر للمعركة الدائرة الآن. فهي من جهة لا تمتلك الخبرة الكافية ولا الآلية المناسبة، ومن جهة أخرى ميلها الدائم للمساومات حين تتحقق لها مصالح ذاتية وفئوية ضيقة. بمعنى آخر، لابد من قيادة وطنية شاملة يكون شيوخ العشائر جزءاً منها لكي تشرف على انتقال الانتفاضة المسلحة إلى حرب وطنية شاملة، في مواجهة حرب نوري الطائفية. بحيث تكون بدايتها إعلان المدن المنتفضة مناطق محررة، وإقامة سلطة وطنية عليها، ليس من أجل الدفاع عنها واعتبارها إقليماً كما يريد البعض، وإنما الدفاع عنها كقاعدة انطلاق لتحرير جميع المدن العراقية وصولاً إلى العاصمة العراقية، لإسقاط العملية السياسية بكل أركانها، من حكومة وبرلمان ودستور، وتشكيل حكومة وطنية تنجز مهام التحرر والاستقلال، وإنهاء مخلفات الاحتلال وكتابة دستور يحقق الطموحات الوطنية، تمهيدا لإجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة يقرر فيها الشعب العراقي شكل الحكومة والنظام الذي يريده.
هذه الحرب الوطنية ليس ابتكاراً عراقياً، وإنما حفل بها تاريخ الشعوب التي قررت تقرير مصيرها ونيل استقلالها والحفاظ على سيادتها الوطنية. بل أن هذا النوع من الحروب حظي بأهمية خاصة في العلاقات الدولية، باعتباره عملاً وطنياً ذا قيمة إنسانية وموضع اهتمام لكل الشعوب وفي كل الأزمنة والظروف.
لا نجادل بصعوبة إنجاز مهمة من هذا الوزن، لكن وجود المقاومة العراقية المسلحة، التي استعادت عافيتها في الآونة الأخيرة من جهة، وانهيار العملية السياسية من جهة أخرى، والاستياء الشعبي العام ضد الحكومة، جراء عدم قدرتها على تقديم أبسط مقومات الحياة للمواطن من جهة ثالثة. سيسهل إنجاز هذه المهمة النبيلة. وأي مراهنة أخرى على إصلاح الوضع في العراق عبر تغيير هذه العملية السياسية، من خلال الانتخابات أو ممارسة الديمقراطية المزيفة، مراهنة خاسرة تماماً، بل على العكس من ذلك، فالانتخابات كلها لم تنتج في كل مرة سوى ذات الوجوه الكالحة، وأن القادمين الجدد، إما سيكونون من نفس الطينة، أو تسود وجوههم أمام المغريات المسيلة للعاب.
لا يحق للآخرين ابتزازنا بوصف الحرب الوطنية على أنها دعوة للاقتتال بين أبناء الشعب، أو بين طوائفه وتياراته المختلفة، وإنما هي دعوة لنيل المطالب المشروعة للناس، وأي اعتراض على هذا الحق هي اعتراضات باطلة، أو في أحسن الأحوال كلمة حق يراد بها باطل، فدماء العراقيين ستظل تسيل بوسائل متعددة في حال استمرار المالكي بالحكم أو من يخلفه. والشعب العراقي ليس الوحيد بين شعوب العالم الذي ينال حقوقه بالقوة، خاصة إذا كانت القوة وتكاليفها تعادل عودة الوطن إلى أهله وإدارته من قبل أبنائه المخلصين وتوظيف ثرواته لصالح أجياله المتتابعة، ليجري الوصول إلى تحقيق العدالة والمساواة على أساس مبادىء المواطنة، وتكافؤ الفرص، وإنهاء الاستغلال، وإعطاء كل ذي حق حقه، بصرف النظر عن دينه أو مذهبه أو عرقه أو طائفته.
قبل أربعة قرون ونيف، قال (نيكولا ميكافيللي) في كتابه (الأمير)، "إن مجرد توقع المخاطر، فأنه يمكن للإنسان العاقل من علاجها بسهولة. أما إذا انتظر مجيئها حتى تقع، فأن العلاج يصبح غير مجد بالنظر لتأصل الداء". ثم يضرب مثلاً فيقول: "وهذا ما ينطبق تماماً على الحميات الرئوية التي يقول الأطباء عنها، إنها صعبة التشخيص وسهلة العلاج في البداية، ولكنها تضحى مع مرور الزمن، إذا سمح لها بالبقاء دون علاج، سهلة التشخيص وصعبة العلاج." في حين يخبرنا أهل الذكر، بأن الشعوب التي تتأخر بالإمساك باللحظة التاريخية ستخسر معركتها حتماً، مثلما تخسر أيضاً إذا أمسكت بها قبل أوانها. ولذلك فأننا أمام اللحظة، أو الفرصة التاريخية الراهنة، وعلينا الإمساك بها، للتخلص من نوري المالكي وأمثاله، لأن أي تراجع عن استغلال هذه الفرصة التاريخية، وتحت أي ذريعة كانت، ستنهي الأمل بتخليص شعبنا من محنته، أو أنها ستطيل من معاناته سنين أخرى، وربما عقود طويلة من الزمن.
أزعم بأن شعبنا وقواه الوطنية ومقاومته المسلحة، لقادرين على إنجاز هذه المهمة، إذا ما وحدوا صفوفهم، والتحموا بالانتفاضة في محافظة الرمادي والمحافظات الأخرى. التاريخ ليس كريماً في منح الشعوب فرصها التاريخية.
5/1/2014