أعطوا ما لقيصر لقيصر

بشاره منسى

ما هي ركائز الدولة؟ حدود معترف بها، ضرائب تجبى ضمن هذه الحدود، أمن تبسطه الدولة بواسطة قواها المسلحة الذاتية وبإشراف القضاء.

حدود لبنان المعترف بها دولياً ينكرها عليه أهله، لا بأقوالهم بل بأفعالهم. وكيف تجبى الضرائب حدّث ولا حرج: للدولة من الجمل أذنه، من المطار إلى المرافئ العامة إلى نقاط المرور الحدودية. هذا الأمر ليس بجديد، إنما المقلق وإلى أقصى الحدود فهو تفاقمه في ظل عجز الدولة المالي ودينها العام الذي تجاوز أرقام خيالية نسبة إلى الدخل العام وعدد السكّان.

يتهم الوزراء بعضهم البعض بالسرقة الموصوفة فلا يحرك ساكناً لا رئيس الجمهورية ولا رئيس الوزراء ولا مجلس النواب ولا القضاء المختص. الاستيلاء على الشواطئ وبناء القصور الشاهقات من جراء ما تدرّه الوظيفة من أرباح أصبح هواية وطنية والمتهم بها يضحك في الصالونات قائلاً: "من كان منكم بلا خطيئة فليرمني بحجر". منذ عقدين انتحر رئيس الوزراء الفرنسي السابق Pierre Beregevoy، لأن صديقًا له اسمه Roger Pierre Pelat أقرضه مليون فرنك ليشتري موقع قدم في باريس، وتناولته الصحافة حول هذا الدين. في الدول التي تعتبر أن القانون للتطبيق وليس حبراً على ورق، من يقدم على مخالفة - وليس على جرم موصوف - يستحي ويعتذر ويعتزل. أحد الوزراء الفرنسيين استأجر لنفسه من بلدية باريس منزلاً بأجر أدنى مما هو معمول به في منطقة المأجور، إضافة إلى أن مركزه في الحكومة لا توجب هذه المساحة المستأجرة (800 متر)، أُرغم هذا الوزير على الاستقالة.

في لبنان لا يكتفي المسؤول بأن يجمع ثروته من جراء الوظيفة، إنما يشيد لنفسه قصراً من ادخارات تلك الوظيفة كي يعرف الناس، إذا غاب عنهم ذلك، أنه أصبح في نادي الأثرياء، فيما كان يفترض أن يحاسبه القضاء على تجاوزاته.

أهمية وزارة النفط مثلاً أن للعمولة فيها صفة الاستمرار، إذ يدخل الوزير إلى الوزارة يعرف مسبقاً ما ستدرُّه عليه من أرباح ويبرمج مشاريعه الاستثمارية على هذا الأساس. الاختلال في العمولات قد يولد أحياناً انقطاعاً في التيار الكهربائي، كما جرى بالنسبة إلى توقف توليد الكهرباء من على متن السفينة التركية، إنما المهم هو أن يبقى سيل تيار العمولات بلا انقطاع.

بسط الأمن محفوظ حيث لا يوجد رجال أمن: في المربعات الأمنية التي تحميها الأحزاب والطوائف، من الجنوب إلى الشوف إلى كسروان إلى الضاحية. ماذا عن الشواطئ التي هي في عهدة الدولة، لأنها ملك المواطن يتمتع بعليل هوائها ومياهها الدافئة خلال فصل الصيف؟

في الدول التي تُحترم فيها القوانين، تعتبر الشواطئ من المقدسات ويقمع الاعتداء عليها فوراً، كما تقمع الاعتداءات على الحدائق العامة. في كورسيكا مثلاً تبادر الحكومة الفرنسية إلى إزالة الـPaillottes (الخيم) التي يقيمها الكورسيكيون كمطاعم ومنتجعات نهاية فصل الصيف، حتى لا يتبادر إلى ذهن المستثمرين تدعيمها بالإسمنت وإعطاءها صفة الاستمرار. في دولة كراوتيا التي أنشئت بعد تقسيم يوغوسلافيا عمدت السلطات إلى استعادة الشواطئ من المواطنين الكروات، كما من الشركات الأجنبية التي أقامت منشآت سياحية على هذه الشواطئ بموجب "عقود جائرة" وفقاً للتعريف القانوني المعتمد. في لبنان من الناقورة إلى العريضة تبنى منشآت سياحية وقصور، ثم ينشأ "سنسول" طويل ومرفأ لاستقبال السفن المحملة بالبضائع واستيفاء الرسوم عليها.

في مدينة طرابلس، مسقط رأس رئيس الوزراء المستقيل، قد يصار إلى توقيف الصبية حملة الأسهم النارية، إنما المجرمون الحقيقيون منهم أحرار طليقون يهددون الدولة بالويل والثبور. عندما تقع اغتيالات وانفجارات تؤدي بحياة المصلين في الجوامع أو المارة في الشوارع العامة – الجوامع في طرابلس، محاولة نسف السفارة الإيرانية في بيروت، اغتيال الوزير السابق محمد شطح، تفجير قرب السرايا في الهرمل – يطلب رئيس الوزراء مسح الأضرار لدفع التعويضات، وليس القبض على الجاني، لأنه يعرف أن ذلك من رابع المستحيلات.

لبنان يسير بخطى وطيدة ثابتة نحو الإفلاس والانحلال، كدولة صاحبة حدود وسيادة وقوانين. جحا يقطع بالمنشار غصن الشجرة الذي يقف عليه. بالتساوي مع حال سوريا والعراق وليبيا، لبنان مهددٌ بأن يصبح صومالاً جديداً لا أمل في انقاذه، إلا إذا استفاق أهله أو بعضُ أهله على حالتهم الحقيقية. بربكم، إذا كان إدراك ذلك لم يجد سبيلاً إلى قلوبكم بسبب كرهكم أعداءكم لعلّه يجده بسبب حبكم أولادكم وأحفادكم وذريتكم التي هي منكم ولكم، وهي وريثة هذه البلاد.

هل في الإمكان إنقاذ لبنان؟ لا أعرف. هل في الإمكان تقويم الاعوجاج في عقول الناس فيستفيقوا على أن الوظيفة العامة هي لخدمة جميع الناس وليس العائلة والعشيرة والأقران والأزلام؟

من غير هذا التبديل الصعب المنال في الأذهان، لا يمكن أن تقوم الدولة ويستمر الوطن مكاناً صالحاً للعيش الكريم، كما هي الحال عند شعوب العالم الأخرى، تأكل وتشرب وتنام.

هل هو أمر مستحيل أن قَسَماً يؤديه كل من يتولى مسؤولية عامة يقول فيه: "إني أقسم بأن لا أجني نفعاً لنفسي أو لعائلتي أو لأقراني لا بالفعل ولا بالقول (Délit d’initié) ولا أفشي سراً ينتج منه كسب غير مشروع لأحد المقربين مني".

هل ما اقترحه ممكن أم إنه هلوسة كسائر الهلوسات مثل: قانون "الإثراء غير المشروع" الذي وضع في الخمسينيات من القرن الماضي؟ إذا كان ذلك مستحيلاً فلبنان مستحيل أيضاً، لأنه يشبه سفينة هائمة لا تلوي على شيء في البحار، ليس لها ربّان يقودها وليس على متنها مؤونة لإطعام الملاحين ولا بوصلة تنقذها من الغرق المحتوم.

"النهار" البيروتية 22/1/2014