حكي جرايد: أحوال الهمزة
بلال عبد الهادي
الهمزة حرف يحبّ اللعب بأصابع الناس، ويحترف إرباك الأذهان. يطيش من متطلّباته النزقة رأس القلم، ربما لأن الهمزة من قماشة الزعماء تحبّ الكراسي والفخفخة (والفخفخة فخّ مضاعف!) فهي طوراً تجلس على عرش الياء، وطوراً تمدّ رجليها فوق كرسي الواو، وأحياناً لا يطيب لها ان تتمدّد إلاّ على رأس حرف الألف.
كان الخليل بن أحمد الفراهيديّ لا يحبّ الكراسي ولا يميل الى تسنّم المناصب، فزهده وصغر الدنيا في عينيه معروف. كانت تغيظه هذه الهمزة المتبجّحة، المراهقة فقرّر حين قام بتأليف معجم العين، أن يسقطها من حسابه، لم يحبّها لذبذبتها وتلوّنها. كان من حق معجمه بناء للمنهاج الذي اعتمده ان يكون (معجم الهمزة) لا (معجم العين)، أي ان يبتدئ بها لا بالعين، إلاّ أنه قرر معاقبتها علّها تستيقظ من غفلتها النرجسية فنقلها من الصف الأول إلى الصف الثالث بعد العين والحاء، وحجّته في ذلك (هوائيّتها) وأنها تحبّ الكرّ والفرّ، ويستهويها التخفّي. ومن يتأمل تصرف لسانه لا بدّ له من ان يشفق على هذه الهمزة التي يسقطها اللسان من الحسبان في أوقات كثيرة. في علم الأصوات هناك ما يُعرف بتليين الهمزة أو تسهيلها، وتليين الهمزة تعبير ملطّف ومخفّف لما يعترضها من حذف أو إلغاء. وحول هذه النقطة أبيات شعر كثيرة، منها ما ورد في منظومة (الدرر اللوامع) لابن بري:
القول في التحقيق والتسهيل للهمز والإسقاط والتبديل
والهمز في النطق به تكلّف فسهّلوه تارة وحذفوا
فالكراسي التي تعتمد عليها الهمزة تتمرّد عليها وتلفظها بعيداً عنها، وبقدرة قادر تقوم الكرسيّ مقام الهمزة، فكلمة (بئر) على سبيل المثال التي تعتمد في الكتابة على كرسيّ الياء تتحوّل إلى (بير)، تختفي الهمزة لصالح الياء. وفي كلمة (رأس) نجد أن الألف خلعت الهمزة بعيداً وصارت تُلفظ (راس)، وكذلك تفعل الواو بها، تطردها وتحلّ محلّها، كما في كلمة (لولو) التي هي في الأصل (لؤلؤ). وفي التعبير العامّي، حين تجيء متطرّفة تسقط من اعتبار اللسان فالـ(السماء الزرقاء) تصير في الاستعمال (سما زرقا).
ولعلّها انتقاماً لشرفها الذي مرّغه الخليل بوحل الإهمال والإسقاط راحت تُذيق أصابع الطلاب والكتّاب صنوف الحيرة والارتباك، وتضع أمام أقلامهم المطبّات الإملائية. ورغم كل فظاظتها فهناك من يحبّها، يحبّ غنجها، ويفتن بألاعيبها، وقفزها البهلواني، ومهارتها في السير على الحبال. وهنا أشير إلى (كتاب الهمزة) الصادر عن دار الجديد في بيروت للصديقة رشا الأمير، حيث نرى الهمزة تنطّ وتلعب كطفل صغير، مشاغب، ولكن مشاغباته مهضومة. ومن طريق هذا الكتاب يمكن للطالب الصغير، في المدارس الابتدائية، ان يتعلّم كيف يتعامل مع هذه الهمزة المزاجية والمتطلّبة.
والهمزة تحبّ النميمة، وتحبّ الحكي!.
فمن يفتح القاموس العربي على جذر (همز) يظن أنه فتح وكر دبابير ووكر حكايات. ولقد وردت كلمة من هذا الجذر في آية قرآنية لا تخلو من تنديد بكلّ همّاز، لمّاز، تقول الآية الكريمة: (ويل لكلّ همزة لمزة)، ووزن (فُعَلَة) الذي انسكب فيه الجذر يعني المبالغة في الشيء.
ولكن لا يُخاف على الهمزة، فهي تحسن تدبير شؤونها، وتعرف كيف تسحب الشعرة من العجين، فمن ينتبه إليها يكتشف أنها تقوم بوظيفتين، من خلال اسمَيْها أو وظيفتيها، فهي همزة قطع حيث يجب قطع العلاقات، وهمزة وصل حيث يكون للوصل فائدة تُرجى. ولا تختلف طبيعة الهمزة بحال الوصل والفصل عن طبيعة البلاغة. للبلاغة تعريفات كثيرة، ومن جملة هذه التعريفات الوجيزة والدالّة: (البلاغة هي معرفة الفصل من الوصل). ولأن للهمزة مقدرة بلاغية فهي تعرف أن تقبّع شوكها بيديها، ولا أدري ما الذي فعلته همزة الوصل في حياتها الجميلة حتى لا يكون لها حضور على لوحة مفاتيح الحاسوب، وحتى تأخذ منها التكنولوجيا هذا الموقف السلبي! فأنت إن أردت وضع علامة همزة الوصل عليك أن تلفّ وتدور في مخّ الحاسوب حتى تعثر على علامتها في باب الرموز. ولا بدّ أيضاً من ذكر دورها الفاعل في اصطياد أجوبة كثيرة، فهي لم تدخل اللغة من باب واحد وهو باب الصرف، وإنما ولجت عالم النحو أيضاً من باب الاستفهام (والسؤال مفتاح المعرفة!)، كما أنها ولجت، أيضاً، من باب المنادى للقريب.
وهنا تثأر الهمزة الماكرة لنفسها من الخليل بن أحمد باستعادتها لحقّ الصدارة الذي سلبها إياه الفراهيديّ في حالتي الاستفهام والنداء!.
زحْفَطَة وزَحْفَطون
لم أفهم معنى هذه الكلمة يوم سمعها في أول مرّة. وهي ليست، إلى الآن، كثيرة الشيوع على الأفواه، فيما أظن. ولم أكن أعرف من قام بإدخالها إلى اللغة العربية، وتحت أي ظرف، ولست أدري إن كانت من الكلمات التي اعترف بها المعجم، فالمعجم يتدلّل على كلمات كثيرة، ويعاند فتح الأبواب أمام كثير من الكلمات، ولا يعجبه العجب، ولكن لهذه الكلمة حضور مرحّب به في (غوغل) الديموقراطي إلى أقصى حدود الديموقراطية، وسوف تعثر وأنت تتجوّل في أرجاء (غوغل) على تعريفات له بسيطة وحادّة الملامح.
سوف تعرف أن هذه الكلمة المنحوتة لم تخرج من فم كاتب عاديّ، بل من كاتب قصص وروايات بديعة، ومن قلم ناقد جريء وصاحب طرفة عفوية تنبت من شفتيه دون تعمّل، إنه سعيد تقي الدين، وهو من الكتّاب البارعين في نحت الكلام، واختراعه لمآرب فنية، وماهر في دمج كلمتين دمجاً كيميائياً بديعاً. واسم من يحبّ الزحفطة كما يقول الراحل تقي الدين: (زحفطون) وهو مصطلح أطلقه الكاتب على المتملّقين، والزحفطون هو اختصار للـ(زاحف على بطنه) تكسّباً وتملّقاً!.
واللغة العربية لا تبخل بهكذا اشتقاقات، فالجذر الرباعي لا يزال أرضاً بوراً ولكنها قابلة للاستصلاح. الجذر الرباعي أشبه بصحراء تتخلّلها واحات، ولكن يمكن لمن يرغب ان يعزّز حضور هذه الواحات. وتخضير الصحراء ليس بمستبعد، وها نحن نرى بأم العين تحوّلات الخليج الصحراويّ إلى واحات وبساتين وميادين تلعب في أرجائها الخضرة.
وتقيّ الدين أحد هؤلاء الذين لديهم مقدرة على توليد الرباعيات من الثلاثيات. ففعل (زَحْفَط) وليد اتصال حميم بين فعل (زحف) وفعل (بطن). أخذ فعل الزحف بكليته واستعان بحرف الطاء من البطن فأنتج (زَحْفَط) وأعطاه دلالة لاسعة: (الزحف على البطون) ليس في المعسكرات حيث يتدرب العسكري على الزحف تحت الأسلاك الشائكة لغايات أمنية، وإنما من زحف الناس لغير ما مبرّر على الزحف على البطون تقرّباً من ذي سلطان أو مكانة أو أملاً بحظوة موعودة، ويروحون يكيلون له المديح كيلاً، وإن عجزت أصواتهم عن الصياح استعانوا بفوّهات بنادقهم مثلاً للتعبير عن فرح تحته زحف، وإعجاب تحته ولع بما في الجيوب، وقد يستعينون بأوراق الصحف، وصدر الصحف رحب، وواسع الذمّة أحياناً! أو يطلّون من الشاشات ويهلّلون ويعلّلون بالحجج المنطقية والعقل الديكارتيّ أنهم صادقون ويقولون ما به يشعرون.
وللزحفطون مترادفات وتعابير أخرى، فهو من (يمسح الجوخ) أو (يلحس الأحذية)، او يشتغل مبيّضاً في عالم الوجوه والأقنعة.
جريدة "الإنشاء" طرابلس – لبنان 21/2/2014