النفاق السياسي أداة تجميل إسلاميي تونس لتغطية فشلهم
كريستوفر ألكسندر
غادرت (حركة النهضة الإسلامية) السلطة في تونس، بعد اكتسابها رصيداً ثقيلاً من الفشل السياسي، وأسهما مرتفعة من الغضب الشعبي، تسببت فيها سياساتها خلال عامين من الحكم.
رغم أن إسلاميي تونس يعتبرون أنفسهم "أول حركة إسلامية تتنحى طوعاً عن السلطة" بعد فوزها في الانتخابات، غير أن الحقيقة هي عكس ذلك تماماً، والشواهد عليها كثيرة، بعد أن أجبرتها المعارضة السياسية والشعبية على الرحيل، وتصاعد الانقسامات التي شهدها حزبهم أكثر من أي وقت مضى، فالتحديات التي واجهتهم في الحكم عمقت من التشققات الحادة القديمة داخل (حزب النهضة)، كما تسبب نمو البديل السلفي في توترات إضافية داخل الحركة في الوقت الذي خلق فيه صعود المعارضة العلمانية القوي تحديات جديدة من الخارج.
ولكبار قادة (النهضة) وضعية صعبة داخل هذا الطيف إذ كان لا بديل لهم عن التعامل مع الأطراف الأخرى لإكمال دستور يتمتع بدعم واسع ويعكس صحة التزام (النهضة) المعلن بالتعددية والديمقراطية. وفي المقابل تعين عليهم التعامل مع السلفيين ومع أكثر الأعضاء المحافظين داخل الحزب، حيث عمقت المفاوضات حول الدستور الجديد الفجوة منذ فترة طويلة بين الصقور والمتشددين صلب (حركة النهضة)، بمن فيهم راشد الغنوشي، الذي عبر عن استعداده لتقديم تنازلات من أجل العمل مع الأطراف الأخرى لوضع دستور جديد.
والأهم من ذلك، اتفق قادة (النهضة) على استبعاد الشريعة من الدستور الجديد كما تراجعوا مرة أخرى عن مطلبهم بإرساء نظام برلماني بحت من شأنه أن يعطي سلطة كبيرة للمؤسسة التي تهيمن عليها (النهضة). ومع تنامي السخط الشعبي تجاه (حزب النهضة) في صيف 2013 عرضت (النهضة) توسيع الحكومة لتضم شخصيات من المعارضة في محاولة لاحتواء الأوضاع المتوترة، قبل أن تتنحى في أكتوبر الفارط من السلطة بعد موجة من الاحتجاجات الواسعة ومعارضة قوية مشكلة من تحالف واسع من الأحزاب العلمانية تحت اسم جبهة الإنقاذ الوطني.
صراعات
داخلية
يعتبر تيار المتشددين صلب (حركة النهضة) أن انتخابات أكتوبر 2011 منحت (حكومة النهضة) الشرعية الديمقراطية وأن فوز حزبهم في الانتخابات يخول لهم التصرف كذلك ولا خيار للأطراف الأخرى سوى القبول بإرادة الشعب. وخلال مفاوضات صياغة الدستور الجديد عارض المتشددون استعداد الصقور للتنازل عن القيم الدينية والقبول بالتكنوقراط العلمانيين في المؤسسات الحيوية للدولة كما عارضوا مبدأ التخلي عن السلطة بعد الفوز في الانتخابات.
وعلاوة على ذلك تسببت الصراعات على السلطة داخل (حزب النهضة) في تمزيق نسيج الحزب في ظل وجود ناشطين من الشباب شكلوا تحديا لحكم الغنوشي منذ فترة طويلة، إضافة إلى وجود توترات أخرى تتعلق بمسألة السلطة المطلقة داخل الحزب، ويؤكد المتشددون في مجلس شورى الحزب أن المجلس هو صاحب السلطة والقرار في نهاية المطاف، واستخدموا موقعهم لتحدي سيطرة الغنوشي على الحزب.
ومن وراء صفوف (النهضة) يشكل السلفيون حركة متنوعة، بعضهم يرفض السياسة كلياً مفضلاً التفرغ للنشاط الديني بينما اختار آخرون العمل من خلال مؤسسات ديمقراطية في محاولة لإنشاء حكومة متشبعة بالقيم الإسلامية ومتبعة لتعاليمها.
أما السلفيون الأكثر وضوحاً، ولكن ليس بالضرورة الأقوى، فهم أولئك الذين اختاروا ما يسمونه "الجهاد" سبيلاً لإقامة الدولة الإسلامية.
فشل
سياسي
تنامت مشاعر الإحباط بشكل كبير تجاه الحكومة التي تقودها (حركة النهضة) خلال العامين الأولين في السلطة، وانصب اهتمام النخب السياسية على التجادل حول النقاط الدقيقة في الدستور بدل التفكير في إيجاد حلول للتصدي للتحديات الاجتماعية والاقتصادية الحادة في تونس، وطغى الاستقطاب على الجو العام في البلاد واكتسب السلفيون طابعاً عدوانياً عبر التظاهر في الشوارع ومهاجمة الشخصيات السياسية المعارضة.
وحمل زعماء المعارضة العلمانية (النهضة) مسؤولية تدهور الأوضاع في البلاد، وقد تصرفت (النهضة) وفق أساليب جعلت من السهل على المعارضة وصفها بأنها تفتقر إلى الكفاءة وغير جديرة بالثقة ومتساهلة مع السلفيين إلى أبعد الحدود.
وفي أفريل 2012 أسست مجموعة متنوعة من الشخصيات، أغلبها من ذوي الخبرة التكنوقراطية في الحكومات السابقة، حزباً معارضاً جديداً أطلق عليه اسم (نداء تونس) الذي شكل بداية جهد جديد لبناء معارضة علمانية قوية لمواجهة (حزب النهضة).
واكتسبت هذه الجهود زخماً كبيراً في النصف الأول من سنة 2013 وذلك لسببين: قام (الاتحاد العام التونسي للشغل) المنظمة العمالية القوية في تونس برعاية حوار وطني جمع القيادات العليا للأحزاب الكبرى في البلاد في محاولة للدفع بمسار التجاذبات بالغة التعقيد حول الدستور، غير أن زعماء الأحزاب العلمانية قد اتهموا (النهضة) بالتلكؤ في الاستعدادات لإجراء انتخابات جديدة والالتزام بما جاء في اجتماعات الحوار الوطني ثم رفضها المشاركة في الحوار في وقت لاحق.
وفي نهاية الربيع من السنة الفارطة اهترأ الائتلاف الحاكم بقيادة (النهضة) التي فقدت مصداقيتها كشريك في الحوار مع الأطراف الأخرى.
في نفس الوقت شهدت الحالة الأمنية في تونس تدهوراً كبيراً، بعد اغتيال معارضين سياسيين بارزين بالإضافة إلى الهجمات على قوات الجيش التونسي ومحاولات التفجيرات الانتحارية وأدلة على مؤامرات أخرى، مما برهن على صحة تحذيرات المعارضة من أن النهضة ترعى السلفيين وتدفع بالبلاد إلى حافة الفوضى.
وبعد اغتيال محمد البراهمي في جويلية من السنة الماضية، شكل نداء تونس وعدة أحزاب معارضة أخرى (جبهة الإنقاذ الوطني)، بهدف إجبار الحكومة التي يقودها (حزب النهضة) على الاستقالة وحل (المجلس الوطني التأسيسي) المنتخب بعد فشله في إكمال الدستور الجديد.
ولم يكن الائتلاف قائماً على أساس أيديولوجية معينة بل إدراكاً منهم أنه ليس هناك من خيار سوى تشكيل جبهة علمانية واسعة بعلاقاتها مع المجتمع المدني تكون قادرة على التصدي بنجاح لـ(حكم النهضة). وبعد تعزيز صفوفهم بقوة التعبئة بفضل الحركة العمالية والزخم الذي اكتسبوه بعد سقوط حكومة مرسي في مصر، احتشد عشرات الآلاف من المتظاهرين المناهضين للحكومة وسط مدينة تونس وحملوا شعار "الربيع العربي" (الشعب يريد إسقاط النظام).
إجبار
على رحيل الإسلاميين
في البداية قاومت (النهضة) الدعوات المطالبة باستقالتها وخاصة الدعوة إلى حل (المجلس الوطني التأسيسي) باعتبارها تملك الأغلبية. وبدلاً من ذلك، عرضت الحركة أن تتولى "قيادة حكومة وحدة وطنية موسعة"، لكن أحزاب المعارضة رفضت مقترح النهضة أو الجلوس معها على طاولة المفاوضات إلى حين موافقة رئيس الوزراء على الاستقالة وأبقت على الضغط في الشوارع.
وفي هذه الأثناء وضعت أربع منظمات من المجتمع المدني الأكثر تأثيراً في تونس وهي (الاتحاد العام التونسي للشغل) و(الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة) و(الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان) و(الهيئة الوطنية للمحامين)، خارطة طريق لمساعدة الجانبين على الخروج من الأزمة.
وفي أكتوبر الفارط اعتبر قادة (النهضة) المعتدلون أن القبول بخارطة الطريق والموافقة على الاستقالة يخدم مصالح حزبهم بشكل أفضل. وكان المشهد السياسي في تونس قد شهد تغيراً كبيراً منذ أكتوبر سنة 2011 بعد أن فقد حلفاء (حزب النهضة) في الحكومة نفوذهم في مقابل تنظيم المعارضة لصفوفها. وبدت الحشود في الشوارع مشابهة لتلك التي ساعدت على إسقاط (الإخوان المسلمين) في مصر.
ورأت (النهضة) أن عدم الاستجابة لمطالب المعارضة قد يجر البلاد إلى المزيد من الفوضى ويلحق أضراراً جسيمة بمصداقية الحزب مع الناخبين والأحزاب الأخرى، وهذه نقطة مهمة من المؤكد أن (النهضة) ترغب في أن تكون الحزب الأقوى في البلاد ولكنها ترغب في الوقت الحالي في الهيمنة على بعض مفاصل الدولة المحدودة، دون أن يعني ذلك أنها تريد أن تدير البلاد كليا بمفردها.
وعلى المستوى الأساسي، فهم القادة المعتدلون في الحركة منذ عهد بعيد أن الكثير من التونسيين لا يقبلون أن يتولى الإسلاميون إدارة الدولة بمفردهم أو يتحول ذلك إلى هدف واقعي، وقد عملت النهضة منذ الثمانينات على الأقل وبشكل وثيق مع الأطراف التي تحمل مبادئ فلسفية مختلفة عنها كثيراً، فعلى الرغم من طموحاتها بأن تكون الحزب الأقوى في البلاد، فإن استراتيجية النهضة – استراتيجية الجناح المعتدل في الحركة على الأقل – تفترض التحالف مع أحزاب أخرى يكون في وسع (النهضة) العمل معها بشكل مثمر، وفي الأخير ومن أجل الحفاظ على مصداقيتها أمام الناخبين والأطراف الأخرى قرر القادة المعتدلون في (حزب النهضة) مسايرة الواقع وعدم الهروب إلى الأمام.
أسباب
الفشل
يقول المراقبون إن (النهضة) لم تتحمل مسؤولية قيادة حكومة وشكل جديد من الحكم في تونس في ظل ظروف صعبة، رغم أن الحزب فاز بـ(40) في المئة من الأصوات في انتخابات شارك فيها بالكاد نصف الناخبين المؤهلين، ومند استلامها السلطة تحملت (النهضة) فقط العبء الشاق للحفاظ على حكومة ائتلافية ما كان كافيا لإطلاق العنان للخصومات الشخصية والصراعات بخصوص هوية الحركة ومهمتها الاستراتيجية.
وبالمقارنة مع غيرها من حالات الربيع العربي، الذي شهد سقوط الإخوان في مصر، أظهرت (النهضة) في محاولة لتلميع ما بقي من صورتها المشوهة لدى الرأي العام التونسي، أنها وبحكم اعتدالها في كل مواقفها السياسية، ولمصلحة البلاد اختارت الابتعاد عن السلطة وتقديم تنازلات من أجل إنجاح المسار الديمقراطي في البلاد، ومع ذلك يتهمها المعارضون باستعمال النفاق السياسي المفضوح للتغطية على فشلها أمام التونسيين، ويمكن تلخيص الأخطاء التي ارتكبتها (حركة النهضة) في أربع نقاط كبرى هي:
أولاً: تركيزها على القضايا الاجتماعية الخلافية من حيث طريقة صياغتها ومواقفها خلال المفاوضات حول الدستور: أصبحت فصول الدستور الجديد المتعلقة بالهوية الوطنية ووضع المرأة والتعدي على المقدسات وطبيعة الدولة موضوعات للنقاشات المطولة والساخنة. ويعتقد بعض النقاد أن مواقف (حزب النهضة) حيال هذه القضايا تعد خيانة للتوجه العقائدي الأكثر تحفظا كما جاءت في وعودها الانتخابية.
ويعتقد البعض الآخر أن الحزب كان يحاول استرضاء قاعدته الأكثر تحفظا. وبغض النظر عن الدافع، فقد تسببت هذه المواقف في انقسام التونسيين في الوقت الذي كان يجب فيه على الحكومة أن تسعى إلى بناء توافق في الآراء والتركيز على قضايا أخرى.
ثانياً: التساهل مع السلفيين: تتهم المعارضة (حركة النهضة) بازدواجية الخطاب والتباطؤ في إدانة أعمال العنف وعدم اتخاذ إجراءات صارمة ضد مرتكبيها وتشجيع نشاط المتطرفين وذلك حسب قولهم، يرجع إما لأن قادة (النهضة) يدعمون في الواقع أجندة أكثر تطرفاً أو لأن التشدد السلفي يعزز من موقفهم مع الناخبين والأحزاب العلمانية. وبغض النظر عن السبب، يحمل العديد من التونسيين (النهضة) مسؤولية توفير مناخ شجع السلفيين على مزيد العنف في الفترة بين سنتي 2011 و2013.
ثالثاً: التعطيل والتلكؤ والمحسوبية: يتهم العديد من التونسيين (النهضة) بمحاولة تأخير العمل على الدستور الجديد وإجراء انتخابات جديدة، في الوقت الذي يعمل فيه الحزب على صياغة دستور يفرض قيمه مع تعين الموالين للحركة في قطاعات حساسة من أجهزة الدولة.
ووفقا لهذه الحجة، فإن المناقشات المطولة قد عكست أكثر من مجرد خلافات فلسفية بل كانت تكتيكات مماطلة استغلها الحزب للقيام بالتعيينات في وزارة الداخلية وغيرها من المكاتب من الموالين للحزب بدل جلب كفاءات مناسبة لتلك المناصب. وفي سياق مماثل يرى بعض النقاد أن في تفضيل (حركة النهضة) لنظام حكم برلماني والوقت الطويل الذي استغرقته المناقشات لدمج المحكمة الدستورية في الدستور دليلا على أن الحزب يريد دستورا يعطي قوة كبيرة لهيئة تشريعية منتخبة.
رابعا: إهمال الاقتصاد: في الوقت الذي ركزت فيه اهتماماتها على الصراعات الأيديولوجية وتعزيز قدراتها، فإن (حركة النهضة) قد أهملت معالجة المظالم الاجتماعية والاقتصادية التي أذكت التمرد ضد بن علي. وكشف استطلاع حديث للرأي أجراه المعهد الجمهوري الدولي أن 79 في المئة من السكان يعتقدون أن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ لأن مسائل التشغيل والتنمية الاقتصادية والأمن تعد من أوكد اهتمامات التونسيين.
"العرب" لندن 3/3/2014