اليرموك: هل تخلّت فلسطين عن فلسطين؟

الياس خوري

لن أسترسل في وصف المأساة، فالمخيم الشهيد الذي يقع في ضواحي دمشق يتعرض لأبشع عملية اجرامية يمكن ان تخطر في البال. لم يكتف القتلة بقصفه ودكّ بيوته وتهجير الأغلبية الساحقة من سكانه، بل شرعوا في تجويعه عبر حصار لا يرحم. شيوخ وأطفال يموتون جوعا، أجساد صارت هياكل عظمية، ونداءات استغاثة لا تجد أي صدى. حوالي عشرين ألف إنسان، هم من تبقى داخل المخيم، يواجهون اليوم موتهم قصفاً وقتلاً وجوعاً.

لا أدري بماذا تشعر البيروقراطية الفلسطينية التي تعيش في فيلّات رام الله، ولا كيف يسوّغ السيد أحمد جبريل لعناصر تنظيمه الفلسطيني المشاركة في الحصار، ولا موقف حزب الله وكتائب أبو الفضل العباس الذين ينتشرون في حي السيدة زينب، القريب من المخيم. هل قرار أن ‘لا تُسبى زينب مرتين’، وهو أحد الشعارات التي يرفعها مناصرو حزب الله في شوارع بيروت، يحمل في طياته المشاركة أو السكوت عن إبادة الفلسطينيين في مخيم اليرموك؟

عجبي! كما كان يقول صلاح جاهين، عجبي! من هذا الزمن الأرعن، الذي يباد فيه الفلسطينيون من أجل أن تنتصر الممانعة والمقاومة، والى آخر ما لا آخر له من قاموس الدم والقمع.

حكاية مخيم اليرموك يجب أن توضع في سياقها داخل الحرب المشتعلة في سوريا. فالمخيم يتعرض، كغيره من مناطق الغوطتين لحملة إبادة وحصار وقتل وتجويع. فلسطينيو سوريا يدفعون اليوم الثمن الباهظ الذي يدفعه السوريون من أجل حريتهم. وفي هذا فإن المصير المشترك للشعبين الذي تعمّد بدماء عشرات ألوف الضحايا، يؤكد من جديد أن تحرير فلسطين جزء من معركة حرية سوريا، وأن التزاوج بين الحرية والتحرير صار علامة المرحلة الجديدة التي تدخلها بلاد الشام على إيقاع الدم.

إذا كانت مأساة المخيم جزءا من المأساة العامة التي يعيشها السوريون هذه الأيام، واذا كانت فوضى السلاح فيه جزءا من عجز المعارضة السورية على بناء نصاب داخلي ثوري وديمقراطي، فإن هذا يجب أن لا يحجب حقيقة المسؤولية الفلسطينية المباشرة عن المآل الذي وصل إليه الفلسطينيون في تغريبتهم اللبنانية والسورية.

تعالوا نضع الأمور في نصابها، فخلال الحرب الأهلية اللبنانية، رفض الفلسطينيون مغادرة مخيماتهم رغم كل شيء. والمخيمان اللذان أخليا: تل الزعتر وجسر الباشا، لم يتعرض سكانهما للمذابح فقط، بل طردوا بالقوة منهما. أما مخيم شاتيلا الذي تعرض لمذبحتين وحشيتن، الأولى على يدي الإسرائيليين وزبائنتهم عام 82، والثانية على يدي النظام السوري وزبائنته اللبنانيين في حرب المخيمات، فإنه بقي صامداً فوق خرائبه الى اليوم. صحيح أن الكثير من سكانه خرجوا منه، لكن لم نشهد فيه سوى التمسك بالبقاء رغم كل شيء.

لكن حين اشتعلت النار في مخيم نهر البارد عام 2007، بعد اجتياحه من قبل مجموعة أصولية غامضة الملامح تدعى ‘فتح الإسلام’، وخلال المعارك التي دارت بين التنظيم الأصولي والجيش اللبناني، شهد الوضع الفلسطيني حدثاً لا سابق له، تمثّل في نزوح جميع سكان المخيم، الذين وجدوا أنفسهم بين نارين غير صديقتين.

كشفت مأساة نهر البارد الإهتراء الذي أصاب البنى السياسية الفلسطينية، والغياب شبه الكامل لمنظمة التحرير في القيام بدورها كممثل للشعب الفلسطيني ومسؤول عن أمنه وسلامة أبنائه.

لا يمكننا تفسير هذا الإهتراء والغياب بصعود التيارات الإسلامية فقط، بل يمكن الإفتراض بأن هذا الصعود هو نتيجة اهتراء سياسي فلسطيني بدأت ملامحه ترتسم منذ اتفاق أوسلو، واتخذ شكله الفجّ بعد هزيمة الإنتفاضة الثانية.

لقد أعفت القيادة الفلسطينية في رام الله نفسها من المسؤولية عن شعبها، حتى بدا وكأن قيادة المنظمة باتت تتصرف وكأن الشعب الفلسطيني هو أهل الضفة الغربية وغزة، أما الشتات فقد أُسقط من الحساب، نتيجة الوهم بأن التسوية آتية بدولة فلسطينية، وهو وهم قاد إلى وهن شامل، حوّل المناضلين القدماء الى بيروقراطيين ينتظرون الدول المانحة كي يقبضوا مرتباتهم في آخر كل شهر.

هذا التخلي قاد إلى مأساة نهر البارد، وإلى هذا البُكم السياسي الفلسطيني في لبنان. أما في سوريا فإنه يقود إلى الكارثة. وأنا لا أتكلم هنا عن مخيم اليرموك فقط، بل عن أغلبية المخيمات في سوريا التي تتعرض للدمار، بحيث امتلأت مخيمات لبنان بألوف الفلسطينيين اللاجئين من الجحيم السوري.

من الواضح أن القوتين المهيمنتين على الساحة السياسية الفلسطينية أي المنظمة و"حماس"، لا تملكان أية استراتيجية حول موقع الفلسطينيين في الشتات ودورهم، وهم يشكلون أكثرية الشعب الفلسطيني، هذا كي لا نتحدث عن غياب أي رؤية حول فلسطينيي 1948، الذين يعاملون بوصفهم "عرب اسرائيل"!

إن هذا الغياب قاد إلى سياسات ملتبسة تجاه وحشية النظام السوري في تعامله مع المخيمات، وكان يعني شيئاً واحداً هو ترك اللاجئين لمصيرهم، وإشعارهم باليتم.

إن التخلي عن فلسطينيي الشتات وعن المخيمات هو الخطوة الأولى للتخلى عن فلسطين كلها. والذين يعتقدون انهم يستطيعون بالتذاكي والمفاوضات حماية ديمومة سلطتهم تحت الاحتلال واهمون، كي لا نقول انهم متواطئون.

العلاقة شبه المقطوعة بين القيادة الفلسطينية والشتات، تعني تنازلاً عملياً عن حق العودة، أما التنازل عن العلاقة بفلسطينيي 1948 فتحمل في طياتها اعترافاً ضمنياً بـ"يهودية الدولة". فعلى ماذا يتفاوض المفاوضون، أعلى الأرض التي نخرتها المستوطنات؟ ام على القدس التي يجري تهويدها؟

هل يتفاوضون؟ أم يسعون فقط للحفاظ على بقائهم في سلطة لا سلطة لها؟ أم أنهم مجرد وجه آخر لهزيمة معلنة تتذاكى على العجز بمزيد من العجز؟

إما أن تكون فلسطين بشعبها كله أو لن تكون.

يعلن اليرموك أنه صار اسماً آخر لفلسطين. فلماذا يجد اليرموك نفسه وحيداً؟ هل تخلت فلسطين عن فلسطين؟

***

كانوا حوالي ستين شخصاً اجتمعوا أمام مقر الـ"أسكوا" في بيروت، مساء الأربعاء 15 كانون الثاني/يناير تضامناً مع مخيم اليرموك، وكان طفل في الخامسة من العمر يقف ملوحاً بالعلم الفلسطيني. اقتربت منه كي أسأله عن اسمه، فلمحت في وجهه الذي يتلألأ وجوه كل أطفال لبنان وفلسطين وسوريا. قلت له، لا لم أقل، فالطفل كان يلعب بالعلم، ويتراقص على وقع الأغنية، وينظر إلى البعيد حيث تختزن عيناه عالماً متخيلاً لا مكان فيه لوحشية القتلة.

خجلت من عينيه الجميلتين، خجلت من هذا العار الذي أورثناه له ولأبناء جيله، خجلت من صورته وهي تتشكّل اليوم في مخيم اليرموك على شكل أطفال يموتون جوعاً وسط صمتنا وعجزنا وكلماتنا الخرساء.

"القدس العربي" لندن 20/1/2014