يبرود وذكرى أنطون مقدسي

الياس خوري

أستطيع أن أتخيل المشهد، بل إنني أراه الآن بعيني رأسي، واضحاً وساطعاً. أنطون مقدسي يقف على مدخل بلدته يبرود ويأمر الجيوش التي قررت اجتياح المدينة الصغيرة، بالتراجع والانكفاء.

المثقف الذي لا يحمل في يديه سوى الكلمات، ينفض عن كتفيه تراب القبر، ويقف ويقول إن على هذا الموت أن يتوقف، وأن جبال القلمون سوف تبقى عصية على الطغاة.

هكذا، وبلا طلقة واحدة ينكفئ القتل، وتتراجع قعقعة السلاح، ويجد النظام الاستبدادي نفسه مجبرا على الرحيل.

هذا ما حلمت به أمس، حين عادت بي الذاكرة إلى لقائي بأنطون مقدسي في منزله الدمشقي، ارتسمت على شفتي الرجل الكهل والمريض ابتسامة سخرية حين سألناه عن ملابسات طرده من عمله في وزارة الثقافة السورية. حدثنا عن الاستبداد المريض بنفسه، وقال إن لا شيء يستطيع أن يقهر إرادة الحرية.

أحببنا يبرود لأنها بلدة أنطون مقدسي. من أجل هذا المثقف السوري النبيل، الذي كان أستاذ جيل كامل في سوريا والمشرق العربي، تعرفنا إلى أسرار جبال القلمون وتعلمنا منه حب الفلسفة والانفتاح على الفكر الإنساني.

هذا الشيخ الجليل الذي كان علماً ومدرسة ومجموعة من المشاريع الثقافية، أشرف من خلال عمله في وزارة الثقافة السورية على ترجمة عشرات المجلدات من أمهات كتب الفكر العالمي، كان بتواضعه ونبله وأخلاقه نموذجاً وأستاذاً.

عام 2000، ومع بدايات ما أطلق عليه اسم "ربيع دمشق" كان المقدسي من أوائل موقعي البيان الذي أصدره تسعة وتسعون مثقفاً سوريا مطالبين بإنهاء حال الطوارئ وبالحرية للشعب السوري.

لكنه لم يكتف بالتوقيع، بل وجه رسالة مفتوحة إلى الرئيس الجديد بشار الأسد، من على صفحات جريدة "الحياة"، حدد فيها مواضع الألم السوري، وقال الكلام الذي يجدر بالمثقف أن يقوله. واجهت كلمته سيف السلطة، ودفع ثمن رسالته طرداً من وزارة الثقافة، حيث كان يعمل بالتعاقد. وزيرة الثقافة السورية آنذاك مها قنوت استهلت عهدها بطرد شيخ المثقفين السوريين من عمله.

أذكر أنني زرت الشيخ الجليل في منزله في دمشق بعيد حادثة طرده هذه. والرجل الذي أحنت السنوات ظهره، كان مرفوع الهامة، يروي حكاية طرده بفخر من لا يبالي، لقد قال الرجل كلمته، وكان يشعر بالأسى لأن الرئيس الشاب تصرف بالعقلية الاستبدادية نفسها التي كان يتصرف بها والده، أذكر أنه قال إن هذه العقلية سوف تقود إلى خراب سوريا.

مات أنطون مقدسي عام 2005، قبل أن يرى كيف تفتحت أزهار ربيع دمشق ثورة شعبية، قامت آلة النظام الوحشية بقمعها وقادت سوريا الى منعطفات حرب هدفها توحيش الإنسان وتطهير سوريا من السوريات والسوريين.

مثقف يبرود كان يعرف أن أوان كلمة الحق قد أتى، وأن الاستبداد يجب أن يمضي. كتب في رسالته قائلا: "كفانا يا سيدي الكلام الفضفاض، مكاسب الشعب، إنجازات الشعب، إرادة الشعب. الشعب غائب يا سيدي منذ زمن طويل، إرادته مشلولة تقوم اليوم على تحقيق هدفين: الأول على الصعيد الخاص، أن يعمل ليلاً نهاراً من أجل تحصيل قوت أولاده، الثاني على الصعيد العام أن يقول ما يُطلب منه قوله، وأن يتبنى السلوك الذي يطلب منه: (مسيرات، هتافات). إن الذي يعصم هذا الشعب من الدمار هو أنه يتعايش مع هذا الوضع المتردي تعايش مريض مع مرض مزمن".

حين كتب أنطون مقدسي ما كتب، لم يكن يخطر في باله أن الاستبداد يجرؤ على أخذ سوريا إلى الدمار الشامل، ومن المؤكد أنه لم يدر في خلده أن يبرود ستتعرض لحصار شامل، وسوف تهدد بالاجتياح والتدمير من قبل النظام السوري، الذي يستعين اليوم بـ"جيش لبناني" اسمه "حزب الله" قرر أن يكون رأس حربة اجتياح القلمون، وحوّل المذبحة إلى أناشيد حربية، معلناً أنه "سيحرر" المدينة السورية الصغيرة من أهلها، وسيلاحق أنطون مقدسي الى قبره، نيابة عن الديكتاتور السوري الصغير.

ماذا نقول عن يبرود؟

الكلام والأناشيد التي يقوم بها "حزب الله" من أجل تبرير مذبحة (قصير) جديدة في سوريا، تدفع بالأمور الى حافة الجنون.

كلا أيها الناس، أعرف أن المناشدة لم تعد تجدي، فحين ينهار المشترك الأخلاقي والسياسي، تنهار اللغة، وتصير بلا معنى. فالكلام عن أن "حزب المقاومة" نسي أو جعلوه ينسى أن السلاح يجب أن يكون موجها ضد "إسرائيل"، وأن أي وجهة أخرى للسلاح تعني انهيار فكرة المقاومة نفسها، لم يعد يجد من يسمعه. فحين يعلو الكلام الطائفي المذهبي يصير الكلام بلا جدوى، وحين لا يجدون ما يبررون به غزوهم لسوريا سوى الكلام عن "حرب استباقية"، بينما يتعمم الإرهاب "القاعدي" في لبنان بحجة "الدفاع عن النفس" في مواجهة الهجوم على الشعب السوري، فإننا نكون قد وصلنا إلى الحضيض.

وكي لا يفترسنا الحضيض، فإن يبرود ستصمد، وسيكون صمودها بداية تحول في الميزان السوري برمته.

يبرود ستصمد لا لأنها قوية بأبنائها فقط، بل من أجل أنطون مقدسي، ومن أجل أن لا تموت اللغة.

أخال أستاذنا أنطون يقف على مدخل مدينته الصغيرة منشدا مع أبي العلاء:

"ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً

تجاهلتُ حتى قيل إني جاهلُ

فوا عجباً كم يدّعي الفضلَ ناقصٌ

ووا أسفا كم يُظهر النقصَ فاضلُ".

"القدس العربي" 24/2/2014