صراع المصالح الأوروبية يلقي بظلاله على العلاقات الأمريكية الأوروبية
مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية
تتسم العلاقات الأمريكية الأوروبية بطبيعة خاصة، حيث يغلب عليها منذ أكثر من قرن من الزمان اعتبارات التقارب السياسي والاقتصادي والأمني، وهو ما أدى إلى تكامل واضح في الأدوار على مستوى الواقع الدولي.
ويؤكد دارسو العلاقات الأمريكية الأوروبية أن تلك العلاقات في مجملها ليست رهناً بالمتغيرات على الساحة الدولية، إذ إن جميع التغيرات التي طرأت على النظام الدولي لم تترك أثراً سلبياً على مسار التحالف التاريخي بين القوتين، بل قادتها في النهاية نحو مزيد من التقارب.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، هل يمكن أن تحيد تلك العلاقات عن مسارها إذا ما طرأت تغيرات على السياسة الخارجية للطرفين؟
إن المشهد الراهن يؤكد أن هناك تحولاً في الاستراتيجية الخارجية والدفاعية للولايات المتحدة نحو آسيا الباسفيك يقابله خوف أوروبي على مستقبل القارة الأمني، بما يدعم التوجهات نحو بناء استراتيجية دفاعية موحدة للاتحاد الأوروبي وصحوة نحو سياسة خارجية توسعية في الشرق الاوسط وإفريقيا.
ولقد عانت أوروبا خلال السنوات الأخيرة من هزة عميقة نجمت عن اضطرابات اقتصادية ومالية حادة أثرت بشكل مباشر على الأوضاع المعيشية للمواطنين الأوروبيين، الأمر الذي دفع قادة الاتحاد الأوروبي لتركيز طاقاتهم نحو الداخل الأوروبي لعلاج التذبذبات المالية في منطقة اليورو الوليدة.
ومع مجيء عام 2014 ظهرت بوادر إحراز تقدم ملحوظ على صعيد إعادة تطوير البنية الاقتصادية والنقدية للاتحاد في سبيل استعادة الاستقرار الاقتصادي من جديد، لتتجه الدول الأوروبية للنظر نحو الخارج وتعاود التفكير جدياً في بناء استراتيجية خارجية ودفاعية موحدة وقوية لمواجهة التحديات الأمنية على الساحتين الأوروبية والعالمية على حد سواء.
وباعتبار اقتصادها هو الأقوى تصدرت ألمانيا المشهد الأوروبي خلال الأزمة الاقتصادية، حيث شرعت في تصميم مشروع متكامل لتعافي الاقتصاد الأوروبي تقوده القوى النافذة في الاتحاد وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا ويفرض سياسات ضريبية وتقشفية حازمة على الدول التي تعاني عجزاً مالياً، حتى إن البعض بدا متحفزاً تجاه السياسة الألمانية بدعوى أنها تدفع في اتجاه المصالح الألمانية فقط على حساب الدول الأخرى الأعضاء في الاتحاد.
فألمانيا بحسب شركائها الأوروبيين تتمسك بفرض وجهات نظرها حول مختلف القضايا الأوروبية لتعزز قيادتها بغية ترسيخ نفسها كلاعب رئيسي على الساحة الدولية.
وفي المقابل، فإن ألمانيا ترى في طموحها للانضمام إلى القوى العالمية المؤثرة حقاً أصيلاً لها بعد أن كفرت لعقود طويلة زادت على نصف قرن عن خطاياها تجاه المجتمع الدولي خلال الحرب العالمية الثانية، ومن ثم فإن سعيها إلى التوسع في سياستها الخارجية ودورها كلاعب دولي يعتد به ما هو إلا خطوة طال انتظارها لتتواءم مع كونها قوة اقتصادية عظمى، وهو ما ظهر خلال تصريحات الرئيس الألماني (يواخيم غاوك) خلال افتتاح مؤتمر ميونخ للأمن يوم 31/1/2014، الذي قال فيه: "ينبغي على ألمانيا تقديم المزيد من الإسهامات الجوهرية، وينبغي أن تقدمها بصورة أكثر حسماً إذا أرادت أن تكون نعم الشريك".
وواقعياً تسعى ألمانيا لأخذ زمام المبادرة لرسم سياسة أوروبية أمنية ودفاعية مشتركة، وتعتمد في كسب دعم دول الاتحاد الأوروبي لتنفيذ تلك السياسات على عاملين أساسيين:
أولاً - التغيرات التي طرأت على مسار السياسة الدفاعية الأمريكية بالتوجه نحو أسيا الباسفيك - كما تم الإشارة - على حساب قواتها في الشرق الأوسط وأوروبا والاكتفاء بالتركيز على تفوق القدرات التكنولوجية للقوات الباقية، ومحاولة الولايات المتحدة إقناع الشركاء الأوروبيين بأن خفض القوات لا يعني التخلي عن التزاماتها بضمان الأمن الأوروبي.
ومن ثم تزعمت ألمانيا توجهاً نحو تعزيز وتعميق السياسة الخارجية والأمنية المشتركة للاتحاد الأوروبي ودعم التكامل الدفاعي والحفاظ على هدف إنشاء جيش أوروبي كهدف طويل الأجل. وفي وقت كشف اجتماع المجلس الأوروبي الأخير في ديسمبر 2013 عن تباين في وجهات النظر حول جدوى وسبل تطوير استراتيجية الأمن الأوروبي التي صيغت عام 2003 في أعقاب حرب العراق، بما يحقق الطموح الأكبر لألمانيا في قيادة عسكرية أوروبية موحدة، فقد أعلنت ألمانيا إصرارها على تعزيز التعاون العسكري بينها وبين فرنسا لتوسيع دائرة تدخلاتها العسكرية على المستوى الدولي، وشددت المستشارة الألمانية (أنجيلا ميركل) يوم 15/2/2014 أن ذلك التعاون يشمل تزويد جيشي البلدين بمعدات حديثة وتعزيز التعاون على صعيد فض النزاعات في القارة الإفريقية.
ثانياً - حالة انعدام الثقة التي سادت العلاقات الأمريكية الأوروبية عقب الكشف عن فضيحة تجسس وكالة الأمن القومي الأمريكي على مكاتب مسؤولين أوروبيين، إلى جانب التسلل إلكترونياً إلى مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل.
وتحاول ألمانيا استغلال تلك الأزمة للدفع نحو استقلال الأمن الإلكتروني لأوروبا عن الولايات المتحدة، فقد أعلنت (ميركل) عن مقترح لإنشاء شبكة اتصالات أوروبية تتفادى مرور رسائل البريد الإلكتروني وبيانات أخرى عبر الأطلسي، خاصة في ظل إحجام واشنطن عن الموافقة على إبرام اتفاق مع أوروبا سعت إليه ألمانيا بكل قوتها لحظر التجسس المتبادل.
وفي سياق تحركاتها تلك على الساحة الأوروبية تحمل ألمانيا شعار التخلي عن المصالح الذاتية والعمل على تقسيم الأدوار بين دول الاتحاد الأوروبي خدمة للمصالح المشتركة ووصولاً لسياسة أمنية أوروبية متكاملة تحقق المصالح الأوروبية داخل القارة وخارجها.
يأتي هذا، في وقت تعمد ألمانيا إلى طرح نفسها كشريك وحليف دولي موثوق به للولايات المتحدة وقادر على القيام بمهامه والاضطلاع بدوره على أكمل وجه سواء على المستوى الدبلوماسي أو العسكري.
واللافت هنا أن قوة ألمانيا الاقتصادية والعسكرية إضافة إلى مساعيها الحثيثة للخروج من تحت العباءة الأمريكية لاستغلال قدراتها وخبراتها الدبلوماسية العتيدة لبناء سياسة خارجية قوية ومستقلة تتبعها سياسة عسكرية توسعية لملء الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة الأمريكية على الساحتين الشرق أوسطية والإفريقية، كل ذلك مثل عامل ضغط على مراكز القوى الأوروبية كبريطانيا وفرنسا، يتقارب مع ما يطرحه من مخاوف لدى الإدارة الأمريكية من صعود محتمل لألمانيا كقوة عظمى على الساحة الدولية من جديد، بما ينذر بالعودة إلى عصر ما قبل الحرب العالمية الثانية.
في هذا السياق، تأتي الزيارة النادرة التي قام بها الرئيس الفرنسي إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة من 10-12 فبراير الجاري.
ما يلفت الانتباه هنا أن الزيارة أتت بعد دعوة من واشنطن لتكون "زيارة دولة" وهي أعلى أشكال الاتصال الدبلوماسي بين دولتين، و(فرنسوا هولاند) هو أول رئيس فرنسي يستقبل في واشنطن في زيارة دولة منذ رئاسة (جاك شيراك) عام 1996.
جدير بالذكر أن العلاقات الأمريكية الفرنسية شهدت محطات صدام عديدة خلال الأعوام الماضية، فقد ظلت متوترة منذ رفضت باريس دعم غزو العراق بقيادة أمريكية، في عهد الرئيس (جورج دبليو بوش)، وبعدما خبت نار الخلاف بشأن حرب العراق، عاد الاتفاق بين البلدين على جملة من القضايا، لتعود مرة أخرى للتوتر إثر تراجع الرئيس الأمريكي عن قرار ضربات جوية محتملة ضد نظام (بشار الأسد) قبل خمسة أشهر.
وهذه الزيارة النادرة تكشف عن الكثير في كواليس التحالفات الأوروبية الأمريكية، فيرى البعض أنها تهدف إلى تبديد التوتر العميق الذي أسفر عنه التراجع عن ضربة عسكرية في سوريا كانت تنتظرها فرنسا بفارغ الصبر وتدعمها بكل ما أوتيت من قوة، فيما يراها البعض الآخر محاولة لإقناع الأمريكيين بالمشاركة في نهوض الاقتصاد الفرنسي، خاصة وأن فرنسا تعاني عجزاً في الميزانية يتخطى 4% أمهلتها المفوضية الأوروبية حتى 2015 فقط لخفضه دون حاجز 3%.
وبالتوازي مع ذلك اكتسبت زيارة الرئيس الفرنسي إلى الولايات المتحدة زخماً سياسياً وإعلامياً مع تفاني الرئيسين الأمريكي والفرنسي في التأكيد على عمق ومتانة العلاقات بين بلديهما، فقد أبديا خلال مقال مشترك لهما نشر يوم بدء فعاليات الزيارة في صحيفتي "واشنطن بوست" الأمريكية و"لوموند" الفرنسية ارتياحهما لبلوغ التحالف الأمريكي - الفرنسي مرحلة جديدة، وأكدا حرصهما على تعزيز الشراكة الممتدة أكثر من قرنين بين البلدين، باعتبارها "نموذجاً للتعاون الدولي" كانت تفاهمات الدولتين شاهداً جلياً عليه، ومنها التفاهمات حول الملف النووي الإيراني والأزمة السورية وقضايا الأمن في إفريقيا والتعاون الاقتصادي.
كما عكست الزيارة خلال أيامها الثلاثة تفاهمات أمريكية فرنسية في مختلف المسائل الجيو-سياسية والاقتصادية.
وهنا يمكن الإشارة إلى عدة عوامل تقود نحو ذلك التحول في العلاقات الأمريكية الفرنسية خلال الفترة المقبلة:
أولاً - محاولة الإدارتين الأمريكية والفرنسية الوصول إلى دعم اقتصادي متبادل للتغلب على أزمة العجز في الميزانية التي يعانيها اقتصاد الدولتين لسنوات، يقابله نمو ملحوظ للاقتصاد الألماني وفائض غير مسبوق في الميزان التجاري، وهو ما ينعكس سلباً على الوضع الاقتصادي والسياسي للدولتين، فبالنسبة للولايات المتحدة فقد أعربت إدارة (أوباما) أكثر من مرة عن قلقها من عواقب الفائض في الميزان التجاري الألماني على الاقتصاد الأمريكي في ظل عدم قدرتها على الحد من تدفق الصادرات الألمانية للولايات المتحدة في ظل موقف حازم للمستشارة الألمانية (أنجيلا ميركل).
وفرنسياً، تتزايد المخاوف من ضغوط أوروبية متوقعة للتوجه نحو حزمة أكثر تقشفية من الإصلاحات حسب الرؤية الألمانية ترفض فرنسا التعاطي معها.
ثانياً - يضاف إلى ذلك ما تستدعيه قوة ألمانيا الاقتصادية من تمدد لنفوذها داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي، وما يحمله ذلك من قدرة مستقبلية على فرض توجهاتها على السياسات الأوروبية الداخلية والخارجية، خاصة في ظل انسحاب بريطاني اختياري إلى الظلال.
ثالثاً - الرغبة الفرنسية لتكون صديقاً وشريكاً داعماً لسياسات الولايات المتحدة الخارجية، فيما تسعى واشنطن لإعادة ضبط السياسة الخارجية الأمريكية والعثور على شريك يلعب الدور البريطاني خلال الحقبة الماضية، فالولايات المتحدة لا تنسى الرفض الألماني لأي تدخل عسكري في ليبيا، في وقت اتجهت بريطانيا لتقليص نفقاتها العسكرية وخفض عدد قواتها في الخارج، إضافة إلى تقاعسها عن مساندة التوجه الأمريكي لتدخل عسكري في سوريا في سبتمبر الماضي.
والسؤال هنا: هل يسعى التحالف الأمريكي الفرنسي الجديد القديم لاحتواء الطموح الألماني الصاعد لتكون قوة دولية نافذة على مستوى النظام الدولي؟ أم أنه مجرد مناورة أمريكية جديدة للعب على وتر الخلافات بين مراكز القوى الأوروبية لمواجهة المساعي الألمانية لبناء قوة عظمى أوروبية حتى تظل الولايات المتحدة العنصر الحاكم في معادلة الأمن والسياسة الأوروبية والقادرة دوماً على رسم حدود الدور الأوروبي على الساحة الدولية؟
فمن يكون الغالب في هذه اللعبة؟
1/3/2014