محاكمة قتلة الحريري هل تقود إلى حرب أهلية لبنانية؟

مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية

في الوقت الذي يتحتم فيه تحقيق العدالة ومعاقبة المسؤولين عن عملية اغتيال الحريري، يبقى مثل هذا الهدف جديراً بإغراق لبنان في حرب أهلية جديدة.

رغم ما أعلنه رئيس الوزراء اللبناني الأسبق (سعد الحريري) يوم 17/1/2014، من استعداده للمشاركة في حكومة ائتلافية جامعة مع "حزب الله"، في محاولة منه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في لبنان والحؤول دون دخول البلاد مرة أخرى في حرب أهلية، فإنه مع تجدد العمليات التفجيرية وآخرها التفجير الذي استهدف الضاحية الجنوبية لبيروت معقل "حزب الله" يوم 21/1/2014، وبدء جلسات المحكمة الدولية - الخاصة بقضية اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري - في لاهاي يوم 16/1/2014، برز التوازن الهش لميزان القوة الذي يجعل من هذه المحاكمة طريقًا يقذف بلبنان إلى حرب أهلية عارمة.

فبعد مضي تسع سنوات من وفاته، بدأت عجلات العدالة في الدوران ببطء في ظل المضي قدمًا في محاكمة أربعة متهمين ينتمون الى «حزب الله» اللبناني بتهمة قتل (رفيق الحريري)، ولكن المحاكمة لم تكن خالية من أي تعقيدات، وخاصة أنه يتم محاكمة المتهمين غيابيّاً بسبب رفض أمين عام "حزب الله" "حسن نصر الله" السماح بإلقاء القبض عليهم، ورغم أيضاً أن عملية التحقيق تركزت على المتهمين الأربعة، فإن الجلسة الافتتاحية للمحاكمة والتي استمرت لست ساعات لم تذكر أي انتماء سياسي يتعلق بهؤلاء المتهمين، في حين ركزت وسائل الإعلام الأجنبية على تلك المسألة، إذ نشرت صحيفة "الإندبندنت" في افتتاحيتها يوم 16/1/2014، والتي جاءت بعنوان: (محاكمة قتلة رفيق الحريري: الشروع في إجراءات المحاكمة مع عدم وجود المتهمين الأربعة، المشتبه في انتمائهم إلى "حزب الله"، في قفص الاتهام!)، وكذلك نشرت صحيفة "لوس أنجلس تايمز" افتتاحيتها في اليوم نفسه بعنوان: (محاكمة غيابية لمتهمين، يشتبه في علاقتهم بـ"حزب الله"، في جريمة اغتيال الحريري بلبنان)، وعلى إثرها تناولت "كريستيان ساينس مونيتور" القضية ذاتها في افتتاحيتها بعنوان: (محاكمة "حزب الله" بتهمة اغتيال الحريري، ولكن ما هو الدافع وراء ذلك).

وبينما رأت صحيفة "در شبيجل" في افتتاحيتها (محاكمة أشباح) يوم 16/1/2014، أن محاكمة المتهمين الأربعة ستكون محاكمة أشباح، فلا أحد يعرف مكانهم، واستناداً إلى الاستخبارات الغربية فإن اثنين منهم في إيران، ومن المحتمل أن يكون الرئيس (حسن روحاني) يعرف مكانهما، لكنه غير مستعد لتعريض علاقة إيران مع الحزب ومع الرئيس السوري للخطر، متسائلة هل تستطيع المحكمة الدولية في هذه الظروف النجاح في مهمتها؟

وبدورها أوضحت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية في افتتاحيتها باليوم نفسه أن المحاكمة فاشلة لأن المتهمين يحاكمون بشكل غيابي، مشيرة إلى أنهم ليسوا في حالة فرار بل يعيشون حياة عادية في الضاحية الجنوبية لبيروت، تحت حماية "حزب الله" الذي رفض تسليمهم تحت ذريعة أن المحكمة الخاصة بمحاكمتهم هي "جهاز أمريكي – إسرائيلي"، ولكنها عادت وأكدت أنه تبقى هذه المحاكمة هي المحاولة الأولى لكشف الحقيقة حول هذا الاغتيال الذي هز "منطقة الشرق الأوسط" والذي تبعته سلسلة اغتيالات أخرى في لبنان.

ومن جانبه دفع هذا (روبرت فيسك) في مقاله (محاكمة المتهمين بقتل الحريري: بدء الإجراءات من دون حضور المتهمين الأربعة التابعين لـ"حزب الله") بصحيفة "الإندبندنت" يوم 16/1/2014، إلى القول إن التاريخ يرجح بوضوح أنه لن نرى أبداً المذنبين يتلقون عقابهم. موضحاً أنه لم يسجن طوال تاريخ الدولة اللبنانية الذي يمتد نحو 60 عاماً شخص واحد لاتهامه بالضلوع في جريمة اغتيال سياسي، مشيراً إلى موقف "حزب الله" الذي أعلن أدلة حول من قال إنهم "خونة" في قطاع الاتصالات بسبب كشف خلية تلاعبت بمحطات اتصالات لصالح الاستخبارات الإسرائيلية.

وأضاف (فيسك) أن الحزب قبل اغتيال (الحريري) كان يحظى بسمعة "الابتعاد عن سفك دماء اللبنانيين"، لكن دعم الجناح العسكري للحزب للنظام السوري وقتاله إلى جانبه بالإضافة إلى قتل عدد كبير من السنة في سوريا شوه هذه السمعة.

وتركيزاً على النقطة الأخيرة نقلت "الغارديان" في افتتاحياتها يوم 16/1/2014، ما أدلى به (سعد الحريري) من تصريحات تهدف إلى توجيه اللوم إلى "حزب الله" في الجلسة الافتتاحية للمحاكمة، مشيراً أن إثبات الإدانة على المدعى عليهم قد تمنح المحكمة دوراً رئيسيّاً في المساعدة على تفكيك وحل الحزب. وأنه ستتجه أنظار ومشاعر الشعب اللبناني إلى عمل هذه المحكمة التي فتحت أمامنا الصفحة الأولى من العدالة الحقيقية عبر وضع حجر الأساس لمحاربة عمليات الاغتيال السياسي والجريمة المنظمة في لبنان والعالم العربي.

ورغم ما أوضحه (كريستوف بولتنسكي) في مقاله (البطل الخفي) بصحيفة "لو نوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية يوم 17/1/2014 من أن بدء عمل المحكمة الدولية في قضية (الحريري) هو ثمرة تسع سنين من الجهود جرى خلالها أكثر من تحقيق، وعانى فيها القضاة من التهديدات بالقتل والتلاعب بالحقائق وجرت خلالها أكثر من عملية اغتيال، فإنه لا تكمن أهمية المحاكمة في مثول هؤلاء المتهمين الأربعة أو سجنهم جراء جرائمهم، بقدر أن جلسة المحاكمة تلقي بظلالها على الدور الذي يمارسه "حزب الله" في الحياة السياسة اللبنانية.

فهذه المحاكمة تنال من الفكرة المترسخة في الأذهان والخاصة بأن الحزب "قد ضل طريقه وابتعد عن دوره بوصفه المدافع عن دولته ضد أي عدوان إسرائيلي"، وربما سيؤدي تأثير إيران ودورها على الساحة السورية، وكذلك المصادمات المتعددة التي تشهدها لبنان ومسألة تفكيك الدولة حال الانزلاق إلى دوامة الحرب الأهلية إلى انقسام الآراء حول المليشيات المتهمة باغتيال (الحريري)، وكذلك إلى ترسيخ فكرة التحول في الدور الذي يقوم به الحزب.

ومن ناحية أخرى، وبحسب الصحيفة باتت صورة الحزب كمنظمة إرهابية متأصلة في أذهان صانعي السياسة الغربية، ولعل ما يبرر هذا الأمر هو مسألة تقديم المزيد من الدعم المالي والعسكري للحكومة اللبنانية من أجل احتواء المخاطر التي قد يحدثها الحزب، حيث منحت المملكة العربية السعودية لبنان 3 مليارات دولار لشراء أسلحة للجيش، رغم المزاعم التي تؤكد أن هذا الدعم السبب وراءه هو استبعاد أعضاء "حزب الله" حال تم تشكيل حكومة لبنانية جديدة.

ومن الجدير بالذكر أنه قد تتضاعف جملة المخاطر في ظل تزايد ردود الفعل المعادية لـ"حزب الله" بالتزامن مع استمرار المحاكمة، فضلاً عن المخاطر الوخيمة التي تتعلق باحتمالية تكثيف الهجمات ضد أعضاء تحالف "14 آذار"، ولاسيما مع إصرار (سعد الحريري) على أن من اغتال مستشاره (محمد شطح) في ديسمبر الماضي "هم الذين يتهربون من العدالة الدولية ويرفضون المثول أمام المحكمة الدولية".

وبعيداً عن التغطية الغربية للمحاكمة فإنه يمكن القول إنه في ظل الأجواء اللبنانية المشحونة، كان ينتظر كثيرون على الساحة السياسية المشحونة بالاستقطاب في لبنان المحاكمة باعتبارها فرصة فريدة من نوعها للكشف عن الحقيقة وراء واحدة، على الأقل، من حوادث الاغتيال العديدة التي أدمت تاريخ البلاد مؤخراً، ولكن من ناحية أخرى يرى آخرون المحاكمة شأناً سياسيّاً بالدرجة الأولى يستهدف تقويض "أعداء إسرائيل"، إذ إن المتهمين فيها ينتمون إلى "حزب الله" اللبناني.

وباعتبار أن "حزب الله" مدعوم من سوريا، فإن المحاكمة تنذر بمزيد من التوترات الطائفية الملتهبة، وهذا التقسيم يأتي في وضع تفجر فيه العنف بوتيرة متصاعدة في الأسابيع الأخيرة، امتداداً، إلى حد كبير، للحرب في سوريا المجاورة.

فقبل أسابيع قليلة من بدء المحاكمة قتل (محمد شطح)، وزير المالية الأسبق وأحد المقربين من (الحريري)، في انفجار أصغر ولكنه لا يختلف كثيراً، إذ وقع على بعد 500 متر من موقع مقتل (الحريري) و22 آخرين في 14 فبراير 2005، ولم يكن اغتيال (شطح) هو الأخير في سلسلة هجمات شملت انفجارات في الشوارع المزدحمة، وأمام السفارة الإيرانية التي تقع في الضاحية الجنوبية لبيروت، معقل "حزب الله" في لبنان، وعند المساجد في مدينة طرابلس الشمالية، كما تلاه الانفجار الذي وقع يوم المحاكمة في مدينة (الهرمل) وأخيراً انفجار الضاحية الجنوبية ببيروت. وفي ظل هذه الأوضاع يعتقد البعض أن الموقف سيئ للغاية بالفعل لدرجة أن هذه المحاكمة لن تؤدي إلى شيء ذي تأثير كبير، بل قد تؤدي إلى عودة شبح الحرب الأهلية مرة أخرى.

وفي المقابل من ذلك يرى زعيم "حزب الله" "حسن نصر الله" أن "إسرائيل" وراء مقتل (الحريري) مستنداً إلى صور التقطتها طائرات تجسس "إسرائيلية"، مضيفًا أن "إسرائيل" تتبع تحركات (الحريري)، وتخترق وتتلاعب بتسجيلات شبكات الهواتف اللبنانية، والتي بني عليها أساس التحقيقات.

وفي الأخير، فإن حماية "حسن نصر الله" للمتهمين فضلاً على الإصرار على أن جريمة القتل كانت "مؤامرة إسرائيلية" تهدف إلى تأجيج المشاعر المعادية لـ"حزب الله" لن يصب في مصلحة الحزب، كما أن المحاكمة لن يكون لها أي دور يذكر في المساعدة في بناء الثقة بين الفصائل السياسية المتصارعة، والتي رغم مرور 10 أشهر لم يتم بعد الاتفاق على تشكيل حكومة، بسبب شروط "حزب الله" لتأليف الحكومة اللبنانية الجديدة، والتي منها عدم مطالبته بإنهاء تدخله العسكري الراهن داخل الأراضي السورية.

وهكذا كما يقول بعض المحللين يبدو أن لبنان ما زال يتعرّض إلى اعتداء تلو الآخر، فمن اغتيال (رفيق الحريري) إلى اغتيال (محمد شطح) إلى التفجيرات الأخيرة، ويبدو أن القاتل على استعداد لتدمير لبنان من أجل تغطية الجريمة الكبرى وسلسلة الجرائم التي ارتكبها والتي استهدفت اللبنانيين الذين لم يكن لديهم شك في النيات السيئة للنظام السوري وكل من يستخدمه في عملية تدمير لبنان ومؤسساته تحت شعار "المقاومة".

هذا الشعار الذي يتبين كل يوم - بحسب البعض - أنه مجرد غطاء لمحاربة ثقافة الحياة وتحويل لبنان وربما ما يحيط بها من الدول المجاورة، ولاسيما الدول الخليجية، إلى مجرد مستعمرة إيرانية خلفاً لمرحلة الوصاية السورية. وربما هذا كان الهدف البعيد المدى لاغتيال (رفيق الحريري) ورفاقه وما تلا ذلك من جرائم شملت إغراق البلد بالتكفيريين من نوع "فتح الإسلام". وفي الوقت الذي يتحتم فيه تحقيق العدالة ومعاقبة المسؤولين عن عملية الاغتيال، يبقى مثل هذا الهدف جديراً بإغراق لبنان في حرب أهلية وجعل مثل هذه الهجمات والاغتيالات أكثر احتمالاً وأكثر شيوعاً، بينما يظل السلام والاستقرار بعيدا المنال.

26/1/2014