قوميون عرب ضد الاستبداد!
حبيب عيسى
(1)
لعل من واجب الذين مازالوا قابضين على مشروع النهوض القومي العربي بعد مرور أكثر من نصف قرن على انحساره أن يقدموا كشف حساب تفصيلي، خالياً من التبرير وإلقاء المسؤولية على المؤامرة الإمبريالية والصهيونية وعناصر التخلف الداخلية، عن نتائج ممارساتهم دون مواربة إلى جماهير الأمة العربية التي احتضنت المشروع العربي القومي في خمسينيات القرن المنصرم والتي فُجعت بالممارسات الإجرامية لأدعياء القومية العربية، والأهم تقديم كشف الحساب هذا إلى الجيل العربي الجديد الذي احتشد في الميادين يحلم بالربيع العربي فتخلى عنه أدعياء القومية العربية مرة أخرى ووقفوا منه موقف العداء والتشكيك بل واصطفوا في بعض الأحيان في الخنادق المواجهة.
من حق هذا الجيل العربي الرائع أن ينفض عن كاهله عباءة جيلنا التي دنسّها الفساد والاستبداد والتبعية، وأن يشق طريقه بأساليب وأدوات تلائم المبادئ والأهداف النبيلة التي يحلم بها، وأن يعبّر بأسلوبه عن انتمائه لمبادئ الحرية والتحرر والعدالة والمساواة والمواطنة وحق الأمة العربية كباقي أمم الأرض في السيادة على وطنها ومياهها الإقليمية وثرواتها الطبيعية وحقها في النمو والتطور بما تملك من ثروات بشرية ومادية، لا تعتدي على حقوق الغير ولا تقبل العدوان على حقوقها من أي مصدر كان.
(2)
وهذا يرتب على العرب القوميين الجدد ليس المراجعة، وحسب، وإنما التأسيس لنهج جديد ينسجم مع تلك المبادئ التي تقوم على أولوية الإنسان، والإنسان لا يكون إنساناً إلا إذا كان حراً، والحرية لا تتجزأ، ولا تقبل القسمة، وبالتالي على العرب القوميين الجدد إعلان البراءة من الطغاة، ومن المتألهين، ومن الذين يدعوّن أنهم ينفذون الإرادة الإلهية في الوقت ذاته، ومن ثم عليهم ضبط الأدوات، وتحديد المسار للانطلاق باتجاه ذات الأهداف من جديد حتى لا ينتكس المشروع القومي العربي التقدمي مرة أخرى على يد من استخدموه ويستخدمونه للطغيان والتفرد والفساد الأقليمي، وأن يتمسكوا بهويته العربية الحضارية الإنسانية لأن البديل كان وما زال هويات مُصّنعة ومصطنعة يتم استخدامها الآن، بالضبط الآن، لتفتيت حتى أجزاء الأجزاء العربية الحالية.
ولتحديد خط البداية للخروج من المأزق الراهن في الوطن العربي لا بد من معالجة فرع رئيسي من فروع مشكلات الواقع العربي، يتعلق بالمفاهيم الأيديولوجية المؤسسة للاتجاهات السياسية في الأجزاء وفي الكل العربي لبناء حركات سياسية وطنية في الأجزاء حاضنة للأيديولوجيات والرؤى المختلفة على قاعدة وطنية، كما لا بد أن يضع الجميع أوراقهم على الطاولة دون مواربة لنسج علاقات مؤسساتية على قاعدة القواسم المشتركة، وفتح جميع الأبواب للتفاعل بين تلك الأفكار، والأهم الدعوة للمراجعة والتصويب كل من موقعه ولأفكاره، هو، وليس لأفكار الآخرين لإن أنظمة التجزئة الإقليمية الاستبدادية لم تكتف يتجزأة الأمة العربية، وإنما عملت وتعمل على إثارة نعرات عصبوية دمرت وتدمر النسيج الوطني حتى في الأجزاء لإن الاستبداد لا يقوم إلا على العصبويات المتناحرة في المجتمع، وبالتالي لا يمكن الخروج من المأزق إلا بتكافل الجهود الوطنية على مختلف توجهاتها الأيديولوجية لاستعادة قيم ومبادئ المواطنة التي لا يمكن بدونها ممارسة النشاط السياسي، وهكذا على العرب القوميين إعادة تأهيل أنفسهم للمساهمة مع كافة الاتجاهات الوطنية في تجاوز المراحل الانتقالية إلى نظام عام يضمن الحرية والعدالة والمساواة لجميع المواطنين في الأجزاء أولاً، ثم في الكل العربي.
(3)
من هذا المنطلق تتأتى - بالنسبة لنا نحن القوميون العرب التقدميون - ضرورة البحث في المفاهيم المؤسسة للقومية العربية، والاعتراف بالأخطاء والخطايا التي ارتكبها بعض المحسوبين عليها وأدت إلى تعثر مشروعها النهضوي وإلى ارتكاب الجرائم باسمها، أقول ذلك، وأنا أؤكد انتمائي إليها بالتزامن مع الدعوة للمراجعة والتقييم والإقرار بكل السلبيات التي ارتكبت باسم القومية العربية، لهذا لا بد من إعلان البراءة التامة من المرتكبين أياً كانوا، ولا بد أن يأتي هذا الإعلان من القوميين العرب التقدميين الجدد إذا أرادوا التحالف الوطني والقومي على صعيد الأجزاء والكل العربي.
أقول ذلك لا تبريراً لموقف، ولا هروباً من واقع، ولا تعصباً لمبدأ، ولا تجميلاً لواقع شائك ومرير وشائن، ولكنني أقوله أولاً كمدخل إلى المبادرة الوطنية على الأقل في الأجزاء العربية لحل إشكالية النضال الوطني من أجل الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة والتطور باعتبار الفصيل العربي القومي حاضراً، ومستقبلاً له دور رئيسي إلى جانب القوى الوطنية الأخرى للنهوض بالأجزاء، ويجب أن يستعيد حيويته ونبل مقاصده لتأدية هذا الدور.
(4)
وأقوله ثانياً كمدخل إلى المبادرة الوطنية القومية العربية في الكل العربي لتتبوأ هذه الأمة العربية المكانة التي تليق بها، ومن ثم دعوني أقول بوضوح شديد: أن ما اعتبره البعض هزيمة للمشروع العربي القومي، ومبرراً للارتداد عنه. كان بالنسبة إلي دليلاً قاطعاً على المستقبل المظلم الذي ينتظر أجيالنا المقبلة إذا لم يستأنف المشروع القومي العربي التقدمي مسيرة الحرية والنهوض والتنوير والتحرير والعدالة بعد أن سادت البدائل العصبوية الطائفية والإقليمية والعنصرية خلال العقود المنصرمة، وبعد أن أفصح الذين حاربوا المشروع القومي العربي عن الفتن المدمرة للأجزاء وللكل العربي التي اشعلوها ويشعلونها بين المحيط والخليج.
لقد عشنا ورأينا بأم العين انهيار الحلم بالحرية والديموقراطية والتنمية وحق تقرير المصير بالتزامن مع انهيار المشروع القومي العربي النهضوي التنويري. إن هذا لا يعني على الإطلاق أننا ننكر أن المشروع القومي العربي التقدمي قد تعثرّ في تحقيق أي من الأهداف التي رفعها بسبب خلل بنيوي في بنيته، لقد تم اختطافه وتحويله إلى مطية للطغيان والاستبداد والإجرام والردة عن كل ما هو قومي وعن كل ما هو عربي وعن كل ما هو تقدمي، لقد تم تحويله من مشروع باتجاه هدف وغاية نبيلة، إلى وسيلة للسلطوية الإقليمية وإلى مادونها من عصبويات، والقوميون العرب التقدميون الذين لم يتلوثوا بتلك الممارسات، والأمة العربية كلها تدفع ثمن هذا الخلل اليوم، لكن لا بد من القول أيضاً أن البدائل التي سادت بعد انحساره كانت أكثر تخريباً وطغياناً، وتدميراً للنسيج الوطني والقومي وتبعية لقوى الهيمنة الخارجية.
(5)
وإذا كان المحسوبين على القومية العربية قد غلفوّا ويغلفون طغيانهم وفسادهم بشعارات القومية والوحدة والتحرر، فإن البدائل التي سادت بعد انحسارهم تجهر بالسوء، باختصار شديد فشل القوميون في تحقيق أهداف الحرية والوحدة والنهوض، لكن البدائل حققت نجاحاً ملفتاً في إثارة الفتن وتعميم الاستبداد والتوحش والتبعية بين المحيط والخليج، لذلك فإن الجيل الجديد من الشباب على مختلف توجهاته القومية والوطنية مُطالب بالخروج من تحت عباءة الجيل القديم وصراعاته وأساليبه الإقصائية، والكف عن توجيه الاتهامات كل للآخر، وليبدأ كل بنفسه عبر إجراء مراجعة شاملة والدخول في ورشة وطنية شاملة، فالخريطة السياسية السابقة انتهت صلاحيتها، لقد أفرزت المرحلة السابقة أجيالاً جديدة تمرّدت على النمطيات التقليدية وعبثية التفرد والإقصاء، داخل القوميين العرب والشيوعيين والقوميين السوريين والليبراليين واليساريين واليمينيين والاشتراكيين والجدليين الماديين والمثاليين والإنسانيين والدينيين والعلمانيين والإقليميين والمؤمنين بهذا والمؤمنين بذاك.
وبالتالي لا بد من عملية فرز بناء على معطيات ما جرى ويجري بكل شفافية وتحرر، فقد أثبتت التجارب المرة أن هناك قواسم مشتركة بين الذين يتمتعون بمصداقية وطنية واجتماعية من كل هذه الإطراف بمواجهة انتهازيين ومتسلقين ومنافقين في كل تلك الأطراف أيضاً.
باختصار شديد لا بد من فتح صفحة بيضاء بين جميع الذين أفرزتهم تجربة الربيع العربي من جميع الاتجاهات الفكرية والايديولوجية، أولئك الذين تفاعلوا مع نداء الحرية بصدق ومصداقية فلم يتاجروا ولم يتسلقوا لتشكيل حاضنة وطنية للشباب الرائعين الذين فتحوا ثغرة في جدار الطغيان والاستلاب والقهر والقمع لشق الطريق إلى الربيع العربي من جديد، فما زال الحلم مُشرعاً رغم كل ما جرى حتى الآن.
Email:habeb.issa@gmail.com
(على بساط الثلاثاء) 192