القومية العربية من التجارب المرة إلى "الطلاق البائن" مع الاستبداد!
حبيب عيسى
(1)
إذا كنا نعرف بعض اعترافات ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وصلاح البيطار وأكرم الحوراني ووهيب الغانم وسامي الجندي ومحمد عمران ومنيف الرزاز والياس فرح ومروان حبش وسلمان عبد الله ومحمد سعيد طالب وحديثي مراد ومصطفى رستم وأنيس كنجو وأحمد الشيخ قاسم وفوزي رضا ويوسف زعين ومحمد عيد عشاوي وكامل حسين وقحطان الشعبي وسالم ربيع علي وضافي الجمعاني وحاكم الفايز ومجلي نصراوين ويوسف البرجي وحسن الخطيب وعبد الحميد مقداد وحمود قباني وأحمد بن بله وعلي ناصر محمد وعلي صبري ومحمد فوزي وعبد الرحمن عارف وإلى آخر القوميين الذين تورطوا في المساهمة بحكم بعض الأقاليم العربية، عن تجاربهم المرة والحزينة، وانتهاء بما قاله ابراهيم ماخوس وحبيب حداد وعقاب يحيى وشبلي العيسمي ومنصور الأطرش ومروان حموي وجورج حبش وهاني الهندي ومحسن ابراهيم، وحتى إشهار محمد حيدر للطلاق البائن، إضافة لكتابات عصمت سيف الدولة ونديم البيطار وعبد الله الريماوي ومحمد الخير وجمال الأتاسي وياسين الحافظ وجهاد ضاحي وعبد الكريم زهور وآخرين النقدية، فإننا في الوقت ذاته لا نعرف ماذا خربش نور الدين الأتاسي وصلاح جديد وعشرات الآلاف الذين تم حشرهم في زنازين الأنظمة على جدرانها، كما لا نعرف ماذا يمكن أن يقول اليوم ابراهيم الحمدي وعبد الفتاح اسماعيل وأحمد حسن البكر ولؤي الأتاسي وجمال عبد الناصر عن ما آلت إليه الأنظمة التي حكموها، أو ساهموا في حكمها، وما هي خياراتهم الآن؟، وبماذا ينصحون الجيل العربي الطامح إلى ربيع عربي طال انتظاره؟.
ندعّي أن جميع من رحلوا، ومن ما زالوا أحياء من جيل العرب القوميين القديم الذين مازالوا مخلصين لمشروع التحرر والنهوض والحرية والعدالة والتقدم العربي سيعترفون دون تردد للجيل العربي الجديد: أن هزيمة المشروع القومي العربي التقدمي خلال العقود المنصرمة جاءت من داخله، وعلى أيدي من كانوا يدّعون أنهم حملة مشاعله، فالمشكلة كانت في بنيته، وهذا يستدعي الكف عن إغفال أماكن الخلل، وتغطية ذلك بتوجيه اللوم للمؤامرة والرجعية والصهيونية والإمبريالية، فمن الطبيعي أن تحارب تلك القوى المشروع النهضوي العربي، وما كان لها أن تهزمه إلا من خلال الخلل في بنيته.
(2)
لا بد من الاعتراف بداية أن المشروع القومي العربي ليس منحسراً، وحسب، وإنما محاصر باتهامات شتى بعضها صحيح، وأغلبها باطل، تستند في أغلبها إلى الأساليب التي مارسها بعض المحسوبين على التيار القومي العربي، بهدف جرجرة القوميين العرب التقدميين من الحوار الصحي، الإيجابي، حول النقاط الجوهرية المتعلقة بجوهر المبادئ الأساسية للأسس والمنطلقات والغايات، إلى وحول ممارسات الاستبداد والمساومات التي ترتبت على وصول بعض المحسوبين على المشروع العربي القومي إلى سدة الحكم في بعض الدول الإقليمية، وللأسف الشديد فإن تلك المحاولات نجحت في بعض الأحيان والمواقع، فاندفع بعض العرب القوميين تحت وطأة الحماس والمواجهة والتحدي، يتبنّون الدفاع عن النظم الشمولية والاستبدادية، وحتى الدفاع عن بعض المساومات التي فرضتها طبيعة الدول الإقليمية، وباتت تحسب على القوميين، وأغفلوا تأصيل المباديء الأساسية التي تكفل لهم مراجعة التجربة والكشف على الأخطاء والخطايا، وبالتالي استئناف التقدم باتجاه الأهداف الاستراتيجية.
الآن، لا بد من تصويب المسار دون مواربة، لا بد أن يفصل القوميون العرب بين المبادئ والأهداف من جهة، وبين الأساليب الإقليمية لسلطات الدول الواقعية حتى ولو حكمها من يدعون أنهم عرب قوميون من جهة أخرى، والتأكيد دون مواربة أن تلك الأساليب الاستبدادية لا علاقة لها باستراتجية العمل القومي العربي ولا حتى بأساليبه، بل لابد من التأكيد، أن التيار القومي العربي، كان الخاسر الأول والأساسي من تلك الممارسات الشائنة.
فما علاقة القومية العربية بالاستبداد؟ وهل أقام القوميون العرب دولة الوحدة العربية وحكموها بالنظام الشمولي، الاستبدادي؟ أو هل كان هذا النظام الشمولي خيارهم القومي العربي؟، أم خيار الذين انقلبوا على المشروع القومي العربي ليستبدوا بالسلطة الإقليمية في بعض الأجزاء العربية ؟، وهل يجوز أن يُحاسب المناضلون العرب القوميون التقدميون عن أساليب، وممارسات بعض الذين كانوا يحسبون على القومية العربية في فترة نضالهم السلبي ضد الدول الإقليمية، ثم عندما سيطروا على السلطة في تلك الدول الإقليمية انقلبوا أول مانقلبوا على القومية العربية، وأقاموا نظماً استبدادية للسيطرة على مؤسسات تلك الدول وممارسة الإقصاء والاستئصال والتعذيب والطغيان؟.
ثم ما علاقة هؤلاء الذين تحولوا إلى حكام إقليميين بالتيار القومي العربي منذ لحظة سيطرتهم على تلك السلطات الإقليمية؟ ماذا تختلف مواقفهم من القضايا القومية المصيرية عن مواقف حكام العرب الآخرين ملوكاً وسلاطين، وإلى آخرهم؟ بل ماذا يختلف الاضطهاد الذي مورس على المناضلين من القوميين العرب في الدول الإقليمية المحسوبة على القوميين العرب عن الاضطهاد الذي تعرض له، ويتعرض له القوميون العرب في الدول الإقليمية الأخرى؟ إلا بكونه أمّر، وأقسى؟ ثم لماذا تلصق تهمة النظم الشمولية، والاستبدادية، بالقوميين العرب فقط ؟.
(3)
لسنا هنا الآن في مجال السجال مع أحد، لكن نريد القول بوضوح تام أن الاستبداد في الوطن العربي ظاهرة مرضية عناصرها منتشرة بين المستبدين، وبين المستبد بهم في الوقت ذاته، ولهذا فإن دول التجزئة في الوطن العربي محكومة بالمستبدين وبالطغاة وبعصبويات التخلف، أياً كان نظام الحكم فيها ملكياً أم جمهورياً، قومياً أم أقليمياً، أممياً أم دينياً، أشتراكياً أم رأسمالياً.
وبالتالي، فإن اتهام كل طرف للآخرين، لم يعد مجدياً، المطلوب علاج شامل، من وباء الاستبداد، ولا يستثني من ذلك أحد، ولهذا على الجيل الشاب أن لا يقع في مستنقع الاصطفافات مع هذا النظام أوذاك، بين هذه العصبوية الطائفية والعنصرية أو تلك، بل عليه أن يشق طريقاً يشبهه، هو، ويؤدي إلى الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة والتقدم، وليخرج من نماذج أنظمة وعصبويات تختلف في الشكل لكن مضمونها الاستبدادي المخرب واحد بين المحيط والخليج.
فعلى ارض الواقع، الآن، تتواجد على الأرض العربية (23) دولة عضو في الجامعة العربية، واحدة منها تحت الاحتلال الأجنبي المباشر، وسبع منها تم اقتطاع أجزاء من أقاليمها بشكل أو بآخر لصالح دول الجوار ودولة واحدة تتعرض لغزو استيطاني، هل توجد بين هذه الدول كلها دولة ديمقراطية واحدة؟، باستثناء محاولة في موريتانيا قام بها العسكر ثم أجهضها العسكر بعد شهور قليلة، ومشروع قيد الإجهاض في لبنان، على يد أمراء الطوائف، ومحاولة مؤودة لسوار الذهب في السودان، والحرب دائرة على الربيع العربي لاختطافه وتمكين الطغاة في بعض الأجزاء، واستبدال الطغاة الذين رحلوا بطغاة جدد في الأجزاء الأخرى.
إذن، فإن الاستبداد ليس صنعة قومية، ولا نهجاً قومياً، ولا وسيلة قومية، وإنما هو طابع الدول الفعلية غير الشرعية الفاقدة للمشروعية التي تحتل أرض الوطن العربي، وشعب الأمة العربية حيث يفتقد فيها الشعب القرار والإرادة، وحيث تم تصميمها بحيث يعتمد حكامها على الإرادة الخارجية وليس على الإرادة الشعبية الوطنية لهذا نجد أولئك الحكام يتمردون على الشعب طغياناً وقمعاً ونهباً بلا حساب، ويخضعون للأجندات الخارجية دون حساب أيضاً.
(4)
لقد حاول جمال عبد الناصر أن يستعيد القرار الوطني أولاً والقرار القومي ثانياً فتصدى له النظام الإقليمي العربي أولاً ثم انقلب عليه وخذله النظام الشمولي في مصر ذاتها، ونحن نورد ذلك على سبيل المثال، وحسب، فجمال عبد الناصر هو الرجل الذي نكنّ له نحن العرب القوميون الكثير من الاحترام والتقدير، ورغم هذا فإننا نعلن على الملأ، الآن، وبعد مرور فترة زمنية كافية للتقييم والتقدير والتقرير أننا كنا وما زلنا نقدر لجمال عبد الناصر مواقفه الشجاعة في التصدي للهيمنة الخارجية والسعي لإقامة العدالة الاجتماعية والتنمية وريادته للنشروع القومي العربي التقدمي، لكن النظام الشمولي الذي اضطر لإقامته خذله حيأ واتقلب على كل إيجابياته فور غيابه وتحول إلى قاطرة للاختراق الصهيوني والخارجي.
نعم لقد كان نظام جمال عبد الناصر نظام الضرورة لخوض معارك لازمته منذ لحظة استيلاءه على السلطة في مصر، إلى لحظة مقتله، ونحن الآن نستطيع أن نجادل لساعات عن الظروف الموضوعية، وعن المعارك المستمرة وعن طبيعة الأعداء والأصدقاء، لنبرر اختيار مثل ذلك النظام كنظام ضرورة فرضته الأحداث، لكننا، لن نفعل، لأننا قررنا الابتعاد عن التبرير، لذلك، فإننا، ومن باب القسوة على النفس نقول : أن ذلك النظام، خذل جمال عبد الناصر حياً، وانقلب عليه ميتاً، خذل جمال عبد الناصر، في استكمال معركة المواجهة مع "إسرائيل" عام 1956، وخذله في حماية الجمهورية العربية المتحدة، المشروع الحلم للقوميين العرب، وخذله في بناء تجربة اشتراكية إنسانية حقيقية رغم الإنجازات الهائلة التي حققها، ثم خذله في عام 1967، ثم حاصره بالتكافل مع النظم الإقليمية الأخرى فاضطره لقبول مبادرة روجرز، ثم قتله، ثم انقلب عليه ذلك النظام، بقضه وقضيضه بقيادة نائبه والكثير الكثير من رفاقه بعد عام 1970.
انقلب النظام الديكتاتوري على المشروع القومي العربي لجمال عبد الناصر، وفي هذه النقطة يجب أن نحدد أن النظام الإقليمي الاستبدادي في مصر بعد عام 1970 لم ينقلب على عناصر الاستبداد، والديكتاتورية، في النظام، بل على العكس من ذلك تماماً، فمع كل خطوة كان يتقدم فيها النظام على طريق الانقلاب على مشروع جمال عبد الناصر القومي العربي التقدمي كان الاستبداد ينفلت من عقاله أكثر ويتوسع من استبداد خفي إلى استبداد علني فج ووقح بأساليب مختلفة.
من قال أن الاستبداد هو غرف تعذيب، وسجون، وحسب، إنه بالإضافة إلى ذلك تخريب وتدمير لبنية المجتمع، فمنذ ذلك التاريخ وحتى هذه اللحظة التي يتم فيها الالتفاف على ثورة 25 يناير 2011 نجد أن النظام الاستبدادي في مصر الذي انقلب على مشروع جمال عبد الناصر القومي التقدمي يدمّر مكونات المجتمع العربي في مصر، يمزق النسيج الاجتماعي في مصر، ويضع الشعب العربي في مصر بين مطرقة عصابات من المافيات والفساد والعصبويات المتخلفة، وسندان عصابات من قوى الهيمنة الخارجية تتغلغل حتى النخاع في بنية المجتمع لهذا نقول دون مواربة أن النظام الديكتاتوري لجمال عبد الناصر هو ذاته الذي قاد الانقلاب على جمال عبد الناصر، وعلى مشروع ومباديء جمال عبد الناصر.....فهل آن الأوان كي نكف مرة واحدة وأخيرة عن الدفاع عن مثل ذلك النظام، أو تبريره، لأي سبب كان؟ وفاء لروح جمال عبد الناصر نفسه، ولمشروعه القومي العربي التحرري.
(5)
لقد آن الأوان لنا أن نقطع نهائيا مع منهجية الاستبداد، أيا كان مصدرها دون تمييز، وأن نبدأ بالمراجعة دون تردد، ليس عيباً أن نخطئ، لكن من المعيب أن نتستر على الخطأ ونستمر فيه فيتحول من خطأ إلى خطيئة ومن ثم إلى خطايا.
باختصار شديد إن الانقلاب على جمال عبد الناصر في عام 1970 لم يكن انقلاباً على نظام الضرورة الذي اختاره، ولا على أجهزة القمع المشكو منها، وإنما كان انقلاب ذلك النظام ذاته على مشروع جمال عبد الناصر الوطني والقومي العربي التقدمي.
لقد كان ذلك الانقلاب تعزيزاً لدور أجهزة القمع ووسيلة لتعميم عناصر الاستبداد في النظام شاملة له من الجهات كلها لتدخل مفاصله الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ثم لاستخدامه في المشروع المناقض للمشروع القومي العربي لجمال عبد الناصر، وبالتالي فإن العرب القوميين والناصريين منهم بخاصة يرتكبون أخطاء فاحشة في الدفاع عن مثل هذا النظام، أو تبرير خطاياه فما نالنا منه ومن انقلاب ذلك النظام الشمولي على المشروع القومي العربي كان القشة التي قصمت ظهر البعير، خاصة بعد أن تذرعت العديد من نظم الاستبداد في الوطن العربي بذلك النموذج لتبرير جرائمها وتوحشها، وحتى مساوماتها على القضايا القومية الأساسية تحت ادعاء أنها تقتدي بنظام عبد الناصر، أو بسياسة عبد الناصر التي كان يضطر لها تكتيكياً بسبب عجز نظامه الشمولي عن حمل مشروعه التحرري القومي العربي التقدمي، إن السكوت عن ذلك أو تبريره أو الدفاع عنه يشكل شبهة وإساءة جسيمة للمشروع القومي العربي التقدمي عموماً، ولقائد معارك التحرر القومي العربي جمال عبد الناصر على وجه الخصوص!
استناداً إلى ما تقدم، استناداً إلى الذي قلناه، وإلى الذي سكتنا عنه، فإن على القوميين العرب التقدميين أن يحددوا موقفاً واضحاً باتاً من الواقع، ومن نظم الاستبداد بالتحديد، وأن نحدد موقفنا وطريقة تعاملنا مع الدول الفعلية التي تحتل الوطن العربي من محيطه إلى خليجه، فبعد كل هذا الذي جرى لا يكفي أن نقول أننا نهدف إلى إقامة دولة الأمة العربية الواحدة، بل لابد أن نحدد من أين نبدأ؟ وكيف؟ وبأية وسيلة؟، وكيف نكون دعاة تحرر وحرية وديموقراطية انطلاقاً من الأجزاء إلى الكل العربي، وكيف نجسد ذلك من خلال الممارسة في الواقع كما هو والانطلاق منه إلى المستقبل المنشود.
Email: habeb.issa@gmail.com
(على بساط الثلاثاء) 193