مواطنون في سورية: طريق صعب وخيارات مرفوضة!

حبيب عيسى

(1)

لا أعرف – على حد علمي – أن جماعة بشرية في التاريخ الإنساني قد عانت من مأساة إنسانية كتلك التي يعاني منها الشعب في سورية هذه الأيام، فالمآسي الإنسانية لا تقاس بعدد الضحايا، وحسب، وإنما بتراكم معطيات تتداخل فيما بين بعضها بعضاً فتؤدي مجتمعة إلى حالة من الاستعصاء الوطني بحيث يكون المواطن فيها أمام مفترق طرق أحلاها مرّ، وأمام مخاطر لا يعرف من أين تأتي، ولا يعرف مصدرها، ولا إلى أين، فلا يعرف كيف يواجهها.

والشعب في سورية اليوم يجد نفسه في خضم من العواصف المرعبة وعلى مفترق طرق تؤدي جميعها إلى محطات يرفضها، فقط الطريق الوحيد للحرية والسيادة والكرامة والعدالة والمساواة، والذي دفع ومازال يدفع أنهاراً من الدماء الذكية لشقه مازال مغلق أمامه بحواجز وألغام يشترك في وضعها عتاة المجرمين في الداخل برعاية قراصنة هذا النظام الدولي المافوي القذر حيث يعدوّن اليوم لصفقة تقاسم المصالح الاحتكارية ويبحثون عن واجهات مضللة لتمريرها، أما ما عدا هذا الطريق إلى الحرية فكل الطرق الأخرى متاحة والخيارات أمام الشعب في سورية مفتوحة لكنه يرفضها لأنها تشكل على الانفراد والاجتماع عناصر الصفقة المافوية الدولية، بل تتعدد مصادر دفعه مرغماً أو بإرادة منقوصة العناصر للولوج في أحداها.

فالطريق أمام الشعب في سورية مفتوحة إلى اقتتال طائفي وحشي إذا أراد، وعلى الرحب والسعة؟، والطريق إلى إبادة مذهبية لا تبقي ولا تذر إذا كان هذا يشفي غليل البعض سالكة؟، والطريق إلى صراع عرقي إذا كان هذا يدغدغ العنصرية الكامنة عند البعض الآخر مرحب به؟، والطريق إلى تبعية مطلقة لخدمة أجندات إقليمية أو دولية أو صهيونية إذا كان هذا يوفر للبعض بعض من حياة الهوائم ويريحهم من متاعب العقل وقيم الإنسانية معبدة وتحت الوصاية الدولية؟، والطريق إلى تنكر الشعب لهويته الحضارية العربية واصطناع هويات تشوّه وجوده وتاريخه وحاضره ومستقبله إذا كان هذا يزيل عن كاهل البعض هموم التحرر والحرية والتقدم العربي سالكة ومفروشة بالأحقاد وصيحات الثأر الجاهلية؟، والطريق إلى الرضوخ لمافيات الفساد والطغيان والقهر والقمع سالكة ومفروشة بالعطاءات والتوحش.

(2)

وبما أن الشعب في سورية في غالبية كتلته الوطنية المركزية، وعلى مدى سنوات ثلاث من القتل للأنفس وتدمير للعمران وحصار للمدائن وتجويع وتهجير، رفض كل تلك الخيارات المفروضة عليه من الداخل ومن الخارج، وبقي رغم ذلك كله عند خياره، هو، ينشد المواطنة والحرية والعدالة والمساواة والكرامة، فهو لذلك يدفع الثمن، ويواجه العدوان عليه من مختلف الاتجاهات، يريدون إرغامه على أحد خيارات الاستلاب والتبعية والذل، يريدون دفن الربيع العربي في سورية بينما شعبها العظيم يعدّ للاحتفال بميلاده الجديد فيها، ومنها، لقد سجلت سورية على جبينها أنها قلب العروبة النابض، وسيثبت شعبها للقاصي والداني أنه جدير بذلك.

إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك فعلاً، لا بد من طرح سؤال يؤرق الشعب في سورية: إلى متى يمكن أن يستمر هذا العدوان والانتهاك لحرمة الدماء؟، إلى متى يمكن أن يصمد هذا الشعب العظيم فلا ينجرف في أحد الخيارات المشبوهة المنوه عنها؟، كيف يمكن لشعب في التاريخ أن يصمد ويستمر في ثورة اختلطت فيها الأوراق وتداخلت إلى درجة لم يعد معها بالإمكان فرز الصديق عن العدو، فتجد من يقاتل معك اليوم يحمل السلاح عليك غداً، ومن يقاتل الطغيان يسعى إلى طغيان أمر وأقسى، ومن يحارب معك الفساد والنهب يسعى إلى احتكار الفساد والنهب، ومن يحارب طائفية فلان يبشرّ بطائفتيه، ومن يواجه توحش فلان يباريه في التوحش عندما تسنح الفرصة له، ومن يواجه تفرد فلان واستئثاره واحتكاره للنفوذ يسعى للإمساك بمقدرات الوطن وإقصاء ما عداه.

هذا كله وأكثر بكثير يحدث في سورية اليوم من أقصاها إلى أقصاها، ورغم ذلك مازال الشعب في سورية عصياً على الانجرار في تلك المسارب الفاسدة ومازال لسان غالبيته الساحقة يردد مع ابتسامة فيها الكثير من المرارة والسخرية : ليحدث ما يحدث الشعب بدو حرية.

إننا نكاد نجزم بعد كل هذا الذي جرى أن 90% من الشعب في سورية مازال عند موقفه يطالب بدولة المواطنة والحرية والعدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين على أساس من الكفاءة والجدارة وتداول السلطة ديموقراطياً، وأن العشرة بالمائة التي انخرطت في صراعات عبثية مع هذا الطرف أو ذاك قد أدركت عبثية الطريق الذي سلكته، لكنها باتت وبحكم الخوف من الآخر في مواقعها، وتنتظر الخلاص الوطني، فالشعب لم يرفض الطائفية ليمارسها، هو، ولم يرفض الاستبداد لينتج استبداداً، ولم يرفض الفساد لينتج فاسدين جدد، ولم يرفض التفرد والاحتكار والهيمنة والتبعية للأجندات الخارجية ليأتي بنماذج تلعب ذات الأدوار، لذلك كان لا بد للقوى المضادة من فتح حدود الوطن لإدخال مجاميع من الكائنات المتوحشة يجهل الشعب في سورية هويتها، ويجهل من يمولها، ويجهل من يسلحها، ويجهل لصالح أية أجندة تصارع لكن ممارساتها بالمجمل الأعم تصب لصالح منع تكوين حركة وطنية حقيقية مركزية في الوطن وليس خارجه تلبي النداء الوطني باتجاه الغائية التي يناضل الشعب لتحقيقها، فلا تكون مطية لأجندات لا وطنية سواء كانت في الداخل، أو من الخارج، لذلك كان من الطبيعي أن تتكاتف وتتكامل جهود أعداء الشعب على ما بينهم من صراعات وتوحش، وتوحش مضاد لمواجهة الأجندة الوطنية بحيث تكون خيوط اللعبة ممسوكة من خارج النهج الوطني فيحركون الدمى كما يشاؤون اقتتالاً حتى الفناء، أو صفقات واستخذاء حتى الوضاعة.

(3)

هنا بالضبط تكمن مأساة الشعب في سورية فقد خامره إحساس بالمرارة لا مثيل له، حيث الدمار الذي لا سابقة إنسانية له يطال العمران ويزيل أوابد تاريخية صمدت دهوراً أمام أعتى الغزاة، وحيث التنافس على التوحش في سفك الدماء لا مثيل له في التاريخ، وحيث لم تتخلف قوة طامعة ذات شأن في هذا العالم عن التدخل لتحويل مجرى الأحداث في سورية إلى صراع عبثي، وبما أن المستعمرات الصهيونية هي الربيبة المدللة للشرق والغرب معاً كان لا بد من وضع اليد على السلاح الكيماوي في سورية حتى لاتزعج رائحته، ولو عن طريق الخطأ مستعمراً صهيونياً، روسياً كان أو أمريكياً، وبعد ذلك ليسترخي هذا النظام العالمي المافوي الذي يشرف عليه القراصنة ومصاصي دماء الشعوب وهو يستمتع بمناظر الدماء السورية التي تسيل ليكتب بها مواثيق حقوق الإنسان التي يتشدق بها، ثم وفي لحظة، ما، عندما يرى أن الصفقة باتت جاهزة لولادة صفقة "كيري – لافروف" لتحل محل صفقة "سايكس – بيكو" وليحل "الشرق الأوسط الجديد" محل "الشرق الأوسط القديم" بعد أن كان قد تم إحلال دول "الشرق الأوسط" الفعلية مكان دولة الأمة العربية، عندها تبدأ مهرجانات دفن الربيع العربي.

لماذا حصل، ويحصل كل هذا التوحش الغير مسبوق على الشعب في سورية؟، أما كان بالإمكان تلافي ذلك؟.

هنا نغادر ساحة : ماذا يُراد لنا؟، إلى ساحة ماذا أراد ويريد الشعب في سورية؟، ولماذا يتعثر هذا الشعب في تحقيق غائيته؟، ولماذا ينجحون حتى الآن في إغلاق الطريق أمامه إلى الحرية؟، وإن كانوا قد فشلوا حتى الآن أيضاً في دفعه إلى طرق الفتنة التي يريدون، والتي تُخدّم على أجنداتهم التخريبية.

لقد كان متوقعاً منذ البداية أن طريق الشعب في سورية إلى الحرية لن يكون مفروشاً بالورود خاصة بعد إجهاض "ربيع دمشق" مطلع القرن الحالي، وبعد عقود تم خلالها تهميش دور الشعب في السياسة، والفتك بالمؤسسات السياسية الحزبية وتحويلها إلى شتات وشلل فاقدة المقدرة والمأسسة فتحولت إلى جماعة فلان، ومجموعة علان، وبات الاقتراب من السياسة خارج التأييد، جريمة الجرائم، فاكتظت المعتقلات بمن تجرأ على شق عصا الطاعة، وغاب العديد منهم خلف القضبان، ومن خرج حياً كان يحمل ندبات وروايات نشرت الخوق والرعب، فبات الشعب في الغالب شعب خائف، ثم ارتبط الخوف بالعجز عن الفعل والتغيير، وهذا يدفع بالأفراد والجماعات إلى عصبويات للاحتماء بها، وتحويلها إلى عصبويات عدائية تتوجس من الآخر شراً، فحدث شرخ عمودي في النسيج الاجتماعي وباتت الثقة المفقودة ُتغلف بالنفاق وغاب التصادق والمصارحة بين المواطنين مما زاد في حدة الشكوك المكبوتة، فاهتزت قيم ومبادئ المواطنة من أساسها، ولقد انتقل ذلك كله إلى الجيل الجديد الذي اتسعت مداركه وعلومه ومعارفه وعلاقته بالعالم إلا أنه في الوقت ذاته ولد في حاضنة جيل خائف حتى من ظله لكنه محقون بالغضب، وبالتالي لم يكن أمام هذا الجيل الجديد إلا أن يتفاعل مع رياح الربيع العربي على طريقته، كان عليه أن يصنع ثورة لكنه لا يمتلك أدواتها ولا مؤسساتها، إلا أنه لم يلتفت لذلك كله واندفع يهتف بما يريد ضارباً عرض الحائط تحذيرات الخائفين وتنظير السياسيين.

(4)

كان يمكن لذلك أن يفتح طريقاً للتغيير بمخاطر أقل ومحسوبة إلى حد كبير لو أن السياسيين الوطنيين التقليديين الذين تهشمّت مؤسساتهم السياسية، وتهمّش دورهم، ودفعوا أثماناً باهظة تحلقوا حول هذا الشباب الثائر يشكلون حاضنة وطنية تقدم لهم رؤيا استراتيجية وتساهم في تحديد المسار وتحصّن الشباب من الاختراق للانحراف بالثورة عن طريقها، لكن شيئاً من هذا لم يحصل للأسف، بل على العكس من ذلك تحولت الطبقة السياسية التقليدية من حل إلى مشكلة إضافية، حيث فشلت كل محاولات تجميعها في كيان وطني حامل للأهداف الوطنية الأساسية التي لا يختلف عليها أحد، وارتفعت حدة المهاترات والاتهامات بين عناصرها وتشتت في تشكيلات هلامية التكوين، ولم تكتف بذلك بل عكست ذلك السلب على الشباب الثائر، فكل منها يدعي الوصل والتمثيل، وأنه الممثل الشرعي والوحيد، وتكاثر الممثلون لكن المسرح كان خارج الوطن مما "زاد في الطين بلة" فحدث ما لم يحدث لثورة في التاريخ البشري حيث من المفترض أنه عندما تحدث ثورة يبحث المتواجدين في المغتربات والمبعدين والهاربين عن مسارب للعودة إلى الوطن، والمشاركة بالثورة، إلا أن الذي حدث في سورية هو العكس تماماً، فالمتواجدين في الخارج ادعوا تمثيل الثورة على تنافس فيما بينهم بينما لم ينافسهم أغلب المتواجدين في الداخل على هذا التمثيل، وإنما لحقوا بهم إلى الخارج يبحثون عن مكان في الأجندات الخارجية، ثم ومن باب المنافسة، وحتى يثبت كل فريق أن له صلة بالثورة تم ضخ العديد العديد من شباب الثورة الذين نجوا من الموت أو المعتقلات إلى الخارج ليتم تصويرهم في مؤتمرات مدفوعة الثمن، وهكذا تم تفريغ الساحة الوطنية من معظم السياسيين والمناضلين التقليديين، ثم من من تبقى على قيد الحياة من الجيل الأول والثاني من الشباب الثائر، ويتم اليوم استدراج من تبقى للمغادرة.

(5)

ونحن هنا لسنا في وارد السجال مع أحد حول ما جرى ويجري، بل نقدّر الظروف الصعبة والمخاطر التي دفعت العديد من الناشطين والمناضلين لمغادرة الوطن، ونقدر أن هذا لا ينتقص من الدور الوطني لأي أحد منهم، لكن لا بد من الاعتراف أن تلك الهجرة الكثيفة إلى الخارج من قبل الناشطين الشباب والمناضلين أدت إلى نتائج هائلة انعكست سلباً على مسار تطلعات الشعب في سورية إلى الحرية، وأهم تلك النتائج:

1 – تفريغ الساحة الوطنية من أعداد هائلة من الناشطين والمناضلين الذين كان يمكن أن يساهموا في تسييس ومأسسة الحراك الثوري بحيث لا ينحرف عن مساره.

2 – تعدد تشكيل الكيانات في الخارج تحت ادعاء تمثيل الثورة مع تعدد الممولين وافتقاد وجود مؤسسة وطنية مستقلة تتولى شؤون الناشطين والمناضلين في الخارج مما اضطرهم للاعتماد على مصادر متنوعة وقد تكون متناقضة للتمويل مما انعكس على أداء الكيانات المشكلة في الخارج.

3 – لقد أدى هذا كله إلى مضاعفة المصاعب أمام تشكيل كيان وطني في الداخل يكون حاملاً لمشروع الثورة ويكون الخارج انعكاس له، ذلك أن كيان وطني فاعل في الداخل يمكن أن يوحّد مسار القوى في الخارج، بينما العكس أدى إلى انعكاس سلبي على الواقع الموضوعي في الداخل.

4 - لقد أدى هذا النزوح المؤسف للخارج إلى تغييب الوجه الأصيل للحراك الثوري فغابت الرايات الوطنية والهتافات الوطنية والمظاهر المتألقة والمطالب الوطنية وتعددت الرايات المقطوعة الصلة بمطالب الشعب السوري الذي انكفأ بغالبيته لا يجد له مكاناً في صراع بات يشعر أن جميع المتصارعين فيه يستهدفون وأد ثورته.

5 – لقد تحول النزوح إلى الخارج "موضة" بل أكثر من ذلك بات الإصرار على البقاء في الوطن وعدم المغادرة يحمل لصاحبه الاتهام، فيتعرض من الأصدقاء الذين غادروا للعديد من الأسئلة : هل مازلت في الداخل؟، لماذا لم تغادر؟، لماذا لم تعتقل حتى الآن؟، لماذا لم تقتل بعد؟، ولم يبق إلا سؤال واحد لماذا مازلت حياً؟.

إن هناك حوالي عشرين مليوناً من السوريين ما زالوا في سورية نصفهم مهجّر وبلا مأوى، ونسبة المعتقلين منهم في معتقلات أطراف مختلفة تضاهي أي نسبة في التاريخ البشري، يودّعون يومياً قوافل من الشهداء، يتعرضوّن لشتى أنواع القتل والقمع والتعذيب من جهات معروفة ومن جهات مجهولة بالنسبة إليهم، البعض منهم يموت جوعاً أو عطشاً، يتوقعون الموت كل لحظة سواء كانوا في بيوتهم، أو تجرأوا على مغادرتها، اعتادوا أصوات القذائف والمتفجرات والصواريخ، ورغم ذلك لم يغادروا، وحلمهم بوطن حر سيد يكبر كل يوم، ولسان حالهم يردد محنة وستمضي، ويتعاطفون مع الأصدقاء والأعزاء الذين غادروا ويقدرّون مشاعرهم في الغربة، وحنينهم للوطن، ويتمنون لهم عودة آمنة إلى وطن في شوق إليهم، ويستميحوهم العذر لأنهم قرروا البقاء في الوطن الذي سيتعافى بجهود جيل جديد علمته المأساة وصقلته التجربة، وكما كسر حاجز الخوف سيعرف كيف يعلم نفسه بنفسه، فيمؤسس نضاله، ويستعيد رايات ثورته، وسيذهب كل هذا الزبد جفاء، وسيرمي بصفقات قوى الهيمنة الدولية إلى مزابل التاريخ، وسينطلق من جديد نداء الحرية: "الشعب السوري ما بينذل"، و"واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد".

habeb.issa@gmail.com

(على بساط الثلاثاء - 195)