الأمم المتحدة تكاد تموت قلقاً على العراق!

هيفاء زنكنة - كاتبة من العراق

منذ عقود والأمم المتحدة قلقة على العراق. هكذا تنص التقارير والتصريحات تلو التصريحات الصادرة من مختلف منظمات الأمم المتحدة، بدءاً من "اليونسكو" و"اليونسيف" إلى "مجلس حقوق الإنسان" و"يونامي" (بعثة الأمم المتحدة في العراق). وقلق الأمم المتحدة، بحد ذاته، يثير القلق، خاصة وأن بعض ما يصيب الشعب العراقي، هو نتيجة سياسة الأمم المتحدة وما تنفذه من قرارات، بحق الشعوب، لصالح القوى العظمى المهيمنة. وإن اختزلت القوى العظمى، حتى فترة قصيرة، إلى قوة عظمى واحدة وهي الولايات المتحدة.

في فترة التسعينات، مثلاً، قلقت الأمم المتحدة لما أصاب الشعب العراقي جراء الحصار الجائر، متناسية بأنها كانت من عملت على إصدار قرار وتطبيق الحصار تنفيذاً للسياسة الأمريكية – البريطانية. وأصبح قلق الأمم المتحدة مزمناً منذ غزو العراق عام 2003. وهل ننسى كيف أصبح مبنى الأمم المتحدة الشاهد الحي على أكبر عملية تصنيع للكذب، حين جلس أحد معماري الغزو أي كولن باول، وزير خارجية أمريكا، ليظهر فيلماً عن أسلحة الدمار الشامل العراقية المهددة للعالم كله؟

ثم جاء تأسيس بعثة الأمم المتحدة في العراق (يونامي)، بعد الغزو، كمحاولة للسيطرة على أعراض القلق، إلا أن بقاء العراق تحت الاحتلال العسكري المباشر حتى عام 2011 ومن ثم تنصيب حكومة بالنيابة، وعلى الرغم من تغيير وجوه مبعوثي الأمم المتحدة، لم يساعد على إنهاء القلق، بل وفي بعض الأحيان ازداد وتوسع، وبالتحديد في مجال انتهاكات حقوق الإنسان. فأحكام الإعدام، استناداً إلى شهادة المخبر السري، وتحت قضاء مسيس مبني على الفساد، بات وفق تصريح مفوضة حقوق الإنسان "لا إنساني" و"بالجملة". جاءت زيارة (بان كي مون)، الأمين العام للأمم المتحدة، إلى بغداد، في الشهر الماضي، لتجسد القلق وإعلانه بصوت عال أمام ساسة النظام وعلى رأسهم أمين "حزب الدعوة" نوري المالكي. إلا أن (بان كي) لم يعثر على ما ينهي قلق المنظمة بالعراق وغادر البلد بدون الحصول، ولو على حبة (فاليوم)، لتريح أعصابه بعض الشيء.!

وإذا كان (بان كي مون) قد اختار التفرغ، هذه الأيام، لمصدر "قلق" آخر في المنطقة، أي سوريا، إلا أن (يونامي)، بحكم تخصصها بالشأن العراقي، مجبرة على معاناة القلق من مصدر واحد هو العراق فقط. وقلقها الأخير مصدره مدينة الفلوجة. المدينة التي أذاقت المحتل الأنكلو-أمريكي الأمرين وأجبرته، مع بقية المدن المقاومة، على الجلاء العسكري المبكر. هذه المدينة المناضلة، بشهادة المحتل قبل غيره، تسبب القلق للأمم المتحدة، منذ ستة أسابيع، لأسباب إنسانية وسياسية. يشمل حل الوجه السياسي دعوتها "جميع الأطراف السياسية بالعراق إلى معالجة أسباب العنف من خلال الحوار والعملية السياسية والمساعدة في إعادة بناء الأنبار".! وقد رفض رئيس الحكومة الطائفية المضمخة بالفساد هذه الدعوة مراراً وتكراراً تحت شعار "لا حوار مع الإرهاب"، متهماً بذلك جميع سكان أكبر محافظة بالإرهاب، ليسوغ واحداً من أكثر السياسات الحكومية فاشية أي العقاب الجماعي. ودعوة الأمم المتحدة نظام المالكي للحوار يستند إلى شيوع سياسة الحوار مع أشد الأعداء. ها هو عدو المالكي قديماً وصديقه حديثاً بشار الأسد يتفاوض مع من يعتبرهم إرهابيين، وأمريكا تتفاوض مع الطالبان هي وحلفاؤها المتقاتلون فيما بينهم في الباكستان واأفغانستان. كما تتفاوض أمريكا مع إيران. وكان البريطانيون قد جلسوا مع الجيش "الإرهابي" السري الإيرلندي، وهذا غيض من فيض، فلماذا لم يتفاوض المالكي مع أبناء الشعب في الأنبار، لماذا رفض الإصغاء لمطالب المتظاهرين السلميين لأكثر من عام؟

أما الوجه الإنساني لقلق الأمم المتحدة الحالي فسببه، حسب رئيس البعثة (نيكولاي ميلادينوف)، تدهور الأوضاع في مدينة الفلوجة. إذ قصف |الجيش العراقي الباسل" مستشفى الفلوجة العام وتسبب بقتل عدد من العاملين فيه وإجلاء المرضى وإغلاق معظم أقسامه. كما أدى القصف العشوائي إلى قتل وجرح المئات وبلغ عدد النازحين من محافظة الأنبار 300 ألف شخص خلال الستة أسابيع الأخيرة فقط.

وتواصل الأمم المتحدة مناشداتها لتأمين وصول المساعدات الإنسانية إلى المدينة، فحالة النازحين "غير مستقرة مع نفاد مخزون الغذاء والمياه الصالحة للشرب وسوء الصرف الصحي ومحدودية فرص الحصول على الرعاية الصحية".

والمعروف أن قوات النظام قامت بتفجير عدد من الجسور لمنع وصول الإمدادات إلى الأهالي، وتحاصر مداخل المدينة بآلاف القوات حيث لا يسمح للرجال بالدخول أو الخروج منها. وهي ذات السياسة الهمجية التي اتبعها المحتل ويقوم نظام "حزب الدعوة" باستنساخها تحت مرأى العالم بينما تكتفي منظمة الأمم المتحدة بإرضاء ضمير أعضائها بإصدار تصريح أو تقرير تبدي فيه قلقها.

لقد عاش العراق، كما فلسطين والعديد من دول عالمنا، على مدى عقود، في ظل ازدواجية معايير الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان والمساواة وعدم التمييز وكل الطموحات النبيلة المشابهة الأخرى، حتى لم يعد هناك من يؤمن بها لكثرة ابتذالها تضليلاً وخداعاً. سألني صديق، حين طلبت منه أخيراً المشاركة في مؤتمر حول حقوق الإنسان بالعراق، قائلاً بصوت يائس: هل من فائدة؟ ألن يكون هذا مؤتمراً آخر للثرثرة؟ وحين أجبته حول ضرورة توثيق الجرائم ضد الشعوب، تساءل عما فعله العالم إزاء صور وتقارير تعذيب المعتقلين بسوريا وهي بالآلاف. وعلى الرغم من جوابي بأن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، إلا أنني، في قرارة نفسي، وفي لحظات التعب والإحباط، اتفق معه بأن الواقع قد يكون محبطاً وهذه هو، أساساً، ما يدفع الناس إلى تبني أسلوب العنف والتمادي فيه إلى أقصى حد.

إن عالمية حقوق الإنسان تبقى بلا معنى إذا لم تكن هناك مساءلة. ويتجلى هذا في الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان المسكوت عنها في العديد من البلدان، من بينها العراق. حيث تتحول الحياة اليومية لمعظم السكان إلى كفاح من أجل البقاء على قيد الحياة فقط بينما تتمتع السلطات القمعية بحرية ممارسة الإرهاب والتعذيب على نطاق واسع.

إن النظام العراقي لا يبدو "قلقاً" من قلق الأمم المتحدة. فهو نظام لا يضع في حسابه التخطيط بعيد المدى لوطن يتسع لكل أبنائه. إنه نظام عنصري يراهن على البقاء استناداً إلى الإبادة متهماً الآخرين بأنهم "الإرهابيون" العاملون على إرهاب شعبهم وتدمير آمال بناء الديمقراطية.

والمفارقة المضحكة هذه الأيام أن نرى بعض التشكيلات السياسية العراقية وقد سرت إليها حالة قلق الأمم المتحدة. هناك، مثلاً، تيار جديد خرج معظم مؤسسيه من رحم الحزب الشيوعي ليطلقوا على أنفسهم اسم "التيار الديمقراطي" وهو يدعم قائمة انتخابية تدعى "المدنيون الديمقراطيون".

أصدرت هذه القائمة بياناً عن هجوم نظام المالكي على محافظة الأنبار والاقتتال الدائر في محافظات أخرى بعنوان "تطورات الأنبار مقلقة" عبر فيه "التحالف المدني الديمقراطي عن قلقه من تطورات الأزمة في الأنبار". إن ما يجب التأكيد عليه هو ليس الدعوة إلى العنف أو الاقتتال ولكن إذا ما كانت الأمم المتحدة (ولنقل بقية التيارات العراقية ذات المسمى الديمقراطي، وقد أصبحت أكثر من الهم على القلب) جادة فعلاً في قلقها على العراق وغيره من الشعوب المنتهكة حقوقها فأن عليها أن تبدي ما هو أكثر من القلق لتكتسب المصداقية في عملها، للسعي في الحفاظ على كرامة الإنسان بغض النظر عن جنسه أو دينه أو قوميته.

"القدس العربي" 17/2/2014