جيش يفترس أهله في عراق بلا قاعدة

هيفاء زنكنة - كاتبة من العراق

كشفت وزارة الدفاع العراقية، عن قيام القوة الجوية بأكثر من 230 طلعة جوية ضربت فيها 30 موقعا "إرهابياً" في الانبار. ولمن لا يعرف الأنبار أو لمن قد يتوهم بأن الطلعات الجوية هي ضد العدو الصهيوني أو المحتل الأنكلو - أمريكي الذي سبب ما يقارب المليون ضحية، ومسح ذاكرة الشعب الثقافية ونهب البلاد وخرب البنية التحتية، أو أنها لحماية حدود البلد من تدخلات الدول الإقليمية وقصفها للقرى الحدودية، أقول أن هذه الطلعات التي يشنها "الجيش العراقي الباسل" بقيادة نوري المالكي "القائد العام للقوات المسلحة"، وبصمت أو تمثيلية انسحاب وعودة "مكونات" العملية السياسية إلى البرلمان، أقول أن الأنبار محافظة واقعة غرب العراق ومن أهم مدنها الرمادي والفلوجة.

وللتذكير، ولئلا يكتب التاريخ وفق أجندة مشوهة، ونحن لا نزال على قيد الحياة، نعم إنها ذات الفلوجة التي شن عليها الغزاة واحدة من أكبر العمليات العسكرية بتاريخ الجيش الأمريكي منذ حرب فيتنام. إنها المدينة التي هدم الغزاة 70 بالمئة من مبانيها للقضاء على المقاومة أو من أطلق عليهم المحتل ومستخدموه من العراقيين صفة "الإرهابيين" كما فعل المحتل الفرنسي عندما وصف المقاومة الجزائرية بالإرهاب، وكما يفعل المحتل الصهيوني حين يصف المقاومة الفلسطينية.

إنها، أيضاً، المدينة التي وصف ما جرى فيها بأنها "لم تكن حرباً بل مجزرة" كما ذكر أحد شهود العيان من جنود (المارينز) في كتاب (نيكولاس دايفز) "دماء تلطخ أيدينا". ولمن يتطرق إليه الشك في همجية المحتل والساكتين على جرائمه، فليزوروا موقع "تي أم زد" الإلكتروني للصور، الذي نشر منذ أيام، وللمرة الأولى، صورا لـ(مارينز) وهم يصبون البترول على المدنيين في الفلوجة ويحرقونهم. وهي صور مرعبة في بشاعتها ولا إنسانيتها، تعيد إلى الذاكرة جروحاً عن مقابر الضحايا الجماعية في المدينة والتي حفرها الغزاة لطمر جرائمهم، وهي صور ستحفر في الذاكرة وتعمق الجروح أكثر فأكثر لتطابقها مع ما يفعله النظام الحالي من تكرار للعقوبة الجماعية. نعم، هذه هي الأنبار التي يهاجمها الجيش "العظيم" بتطبيل وتزمير يومي بحجة محاربة الإرهاب و"القاعدة" و"داعش" "من أجل العالم كله"!. الأدهى من ذلك، أن يصرح المالكي ومستشاروه، في أعقاب فشل تحقيق النصر المزعوم بالأسلحة الأمريكية المتطورة، بأن "المعركة ضد الإرهاب قد تطول وتستمر".!

ولئلا نتهم بتشويه صورة النظام، يكفينا النظر إلى الاتهامات الجارحة بالفساد والإرهاب والملفات المعروضة على شاشات التلفزيون، وبالبث المباشر، غالباً، بين "شركاء" النظام أنفسهم. وكيف يلجأ "المسؤول الحكومي" إلى التصريحات الصحافية إذا ما حدث ولم يعثر على قناة تلفزيونية تبث اتهاماته أو ما يطلق عليه اسم حرب كشف الملفات.

في خضم هذه الحرب والاتهامات الخطيرة المتبادلة بين أطراف العملية السياسية، بدأ المواطن يتساءل عن حقيقة الصورة التي يود النظام رسمها فيما يخص القاء المسؤولية في كل ما يجري بالبلد على "القاعدة" و"داعش" و"الإرهابيين" ولصق الصورة عنوة بمناطق معينة من البلاد. فكلنا يذكر، التصريحات وعناوين الصحف الرئيسية العراقية وما تناقلته أجهزة الإعلام العربية والغربية، في تموز/يوليو الماضي، عن عملية "هدم الأسوار"، أي الهجوم على معتقلي التاجي وأبو غريب وإطلاق سراح نحو خمسمئة سجين من بينهم قادة كبار بـ"القاعدة". يومها وصف مسؤولو النظام الهجوم بأنه "العملية الأكبر وتشكل تهديداً كبيراً للأمن العالمي". ولم يبق جهاز إعلامي إلا وكرر القصة ذاتها حتى رسخت في الأذهان وتحولت، بدون إجراء أي تحقيق مستقل، إلى واقع لا يتطرق إليه الشك.

إلا أن الحقيقة سرعان ما بدأت تتبين ملامحها نتيجة تبادل الاتهامات بين "شركاء" العملية السياسية. إذ صرح "وزير العدل العراقي" حسن الشمري، وهو قيادي في "حزب الفضيلة الإسلامي" المنضوي في "ائتلاف" النظام الحاكم، وهو من أشد المتحمسين لإعدام كل من يلقى القبض عليه بتهمة "الإرهاب"، أي أنه، بالتأكيد، ليس من "القاعدة" أو "داعش" كما أنه ليس من المؤيدين لهما. كشف الشمري، في مقابلة مع قناة "الرشيد" العراقية، وأعادت نشرها صحيفة "المستقبل" (6 كانون الثاني/يناير 2014) تحت عنوان "مسؤولون هرّبوا سجناء "القاعدة" لتخويف واشنطن من إسقاط الأسد"، أن رؤوساً كبيرة في بغداد سهلت تهريب عناصر وقادة في تنظيم "القاعدة" من السجون العراقية، بهدف إخافة الولايات المتحدة من إسقاط بشار الأسد ولمنعها من تنفيذ ضربة ضده. وسأقتبس أدناه نص ما قاله الشمري لأهميته في إلقاء ضوء على كيفية تقوية تنظيمات معينة أو استغلال أشخاص معينين لأغراض تخدم مصلحة سياسية أو تغيير مسار موقف لا يخدم مصلحة نظام ما. وقد أسدت منظمة "القاعدة"، في العقد الأخير، الكثير من الخدمات إلى العديد من الدول، حتى أصبح ينطبق عليها قول "أنها لو لم تكن موجودة لخلقت".

أكد الشمري أن سجني أبو غريب والتاجي ليسا تحت إدارة وزارة العدل، بل بإدارة وزارة الداخلية، وبالتالي ليس له أو وزارته أية مسؤولية فيما جرى، وأن العملية تمت بمشاركة القوات الأمنية المسؤولة عن حماية إدارة أمن سجني أبو غريب والتاجي في بغداد. وقد تم تنظيم العملية بحيث انسحبت قوات حماية السجنين منهما قبل اقتحام عناصر تنظيم "القاعدة" للسجنين وتهريب رفاقهم السجناء. ورداً على التساؤل حول السبب الكامن وراء تعاون المسؤولين لإطلاق سراح الإرهابيين من "القاعدة"، أوضح الشمري قائلاً "أعتقد أنه كان هناك ترتيب خاص لإخراج هؤلاء القتلة، فهو كان متزامناً مع قرب صدور قرار من الكونغرس الأمريكي لضرب سوريا".

وأشار إلى أنّ "عملية الهروب كانت للضغط على الكونغرس لكيلا يصدر قراراً لصالح الرئيس باراك أوباما يخوله ضرب الرئيس السوري بشار الأسد على اعتبار أن دور تنظيم "القاعدة" قد تعاظم في سوريا، وربما يكون خليفة للأسد". وتساءل قائلا: :كيف أن لواء وفوجاً للشرطة يغيبان بالكامل عن السجنين في يوم الهروب؟".

إن أكاذيب النظام المتشابكة مع التضليل الإعلامي، ضرورية لتضخيم أن لم يكن تصنيع دور منظمات "إرهابية" لم يكن لها وجود قبل الاحتلال وحكوماته المتعاقبة. إنه تضخيم وتجييش للمشاعر الشعبوية لتحقيق ثلاثة أهداف:

أولاً: تغطية جرائم النظام وانتهاكات حقوق الانسان.

ثانياً: تشويه صورة المحتجين على سياسته الطائفية.

ثالثا: لتمرير صفقات وفضائح فساده الذي بات يزكم أنوف الدانين والقاصين. حيث أصبح الفساد، بحد ذاته، مؤسسة متجذرة في كل طبقات وجود وعمل السياسيين والأجهزة الأمنية والشرطة والجيش الموسوم بالبطولة لهجومه لا على أعداء الوطن، كما هو مفترض، بل على مواطنيه.

الحالة التي أشبه ما تكون بالعنكبوت المسمى "حائك الدانتيلا السوداء" المعروف بالتهام كل ما يمكن التهامه لكي ينمو. حيث يشرع فريق مكون من 30 عنكبوتاً صغيراً بالتغذي أولاً على البيض الذي لم يفقس بعد، ثم يتناولون أول أخوانهم وأخواتهم قبل أن يتحولوا على والدتهم لالتهامها.

"القدس العربي" لندن 20/1/2014