عقود السلاح تخرس الأفواه محلياً ودولياً

هيفاء زنكنة

نهب المال العام مستمر في العراق بلا انقطاع، متجلياً بأشكال ومستويات متعددة، بعضها معلن كعقود ومشاريع، لفرط ضخامتها، تحسدنا عليها دول العالم أجمع، لكنها بالحقيقة عقود وهمية، وبعضها الآخر خفي يمرر على الناس عبر مقايضات السياسيين ومدراء المؤسسات، وطبقة المسؤولين وأتباعهم وأقاربهم ووكلائهم، في داخل وخارج العراق.

لا يقتصر النهب على حصد الغنائم أو تقاسمها بين الساسة العراقيين أنفسهم وطبقة رجال الأعمال المتكاثرة مثل الفطريات، ونهب النفط وبيعه بشكل فردي أو عشائري أو حزبي ولكنه، ومنذ أيام الاحتلال الأولى، ترسخ في مجالات أعمق، وهي خدمة البلدان المشاركة في الاحتلال ومحاولة تعويضها، بشتى العقود، عن مساهمته بتخريب العراق. فلكل بلد من الغزاة عقوده المقسمة حسب درجة فاعليته. لذلك لا يمكن فصل الفساد المالي والإداري الحالي، عن هيكلية الغزو وما سبقها من تخطيط وبرمجة الذي حول ما أطلق عليه الغزاة اسم "برنامج الإعمار" إلى برنامج "فساد ونهب بلا حدود". فالبعثات الدراسية، مثلاً، تبتعث بالدرجة الأولى إلى أمريكا وبريطانيا أي لمن لا يعلم، إلى البلدين اللذين ساهما بقصف وتخريب المدارس والجامعات. وعقود بناء المستشفيات التي يقسم المواطنون بأنهم، خلال العشر سنوات الماضية، قلما رأوا مستشفى حكومياً جديداً تم إكمال بنائه، تم منحها إلى ذات الغزاة الذين قصفوا المستشفيات وساهموا، بشكل أو آخر، في تصفية العراق من أطبائه وعقوله.

بلا شك، تشكل عقود شراء السلاح مجالاً خصباً للفساد وشراء الذمم وإسكات أصوات الاحتجاج على سياسة النظم القمعية في العديد من البلدان، لكن البلدان العربية أصبحت متميزة بين أقرانها من الدول المتعاقدة على شراء الأسلحة بأنها لا تشتريها لاستخدامها ضد عدو بل إما كمكافأة اقتصادية للدول المصنعة للسلاح أو تعويضاً لـ"خسائرها" عند غزو واحتلال بلدان عربية أخرى كما تفعل السعودية أو لاستخدامها ضد أبناء شعبها كما يفعل نظام المالكي.

لشراء الذمم والسكوت على ارتكاب النظام الجرائم ضد شعبه، تم دفن فضيحة صفقة شراء الأسلحة الروسية، على الرغم من توفر الأدلة على الفساد وتبادل غنيمة السمسرة، وأعلن عن استمرار إجراءات شراء بقيمة تزيد على (4) مليارات دولار. لتكون الحصيلة في صالح الطرفين حسب سياسة "أطعم الفم تستحي العين". لم لا وأموال النفط المهربة إلى حسابات ساسة "العراق الديمقراطي" لا ينافسها بالكمية غير دماء العراقيين السائلة!

وفي الوقت الذي تتسرب فيه أخبار عقود الفساد في البناء وتبليط الشوارع والتزود بالكهرباء والحصة التموينية، مثالاً لا حصراً، عبر مهاترات وتهديدات الفضح وفتح الملفات بين الساسة وأعضاء البرلمان، أنفسهم، يسعى النظام بين الحين والآخر، إلى الإعلان عن عقود أخرى لأسباب عدة من بينها الترهيب والترغيب. فقد ثابر ساسة النظام، في الأسابيع الثمانية الأخيرة، ومنذ اندلاع انتفاضة الأنبار، على التأكيد بمناسبة وبدون مناسبة على تصريحات الإدارة الأمريكية ووزارة الدفاع (البنتاغون)، بشكل خاص، حول قرب تزويد أو الموافقة على تزويد النظام بأسلحة وتقنية عسكرية متطورة لـ"محاربة الإرهاب". يقع تضخيم هذه الأنباء أو حتى استمرارية التصريح بها ضمن باب الإعلام الدعائي لترويع المساهمين بالانتفاضة. وقد أثبتت الأسابيع الأخيرة فشل هذه السياسة وتهاوي أكثر الأسلحة تطوراً أمام مقاومة المنتفضين. أما الوجه الثاني للإعلان عن الصفقات فهو ترغيب دول الاحتلال وغيرها بالتنافس على توقيع الصفقات مع النظام. لذلك، قام رئيس الوزراء البريطاني بتعيين السيدة (أيما نيكلسون) كمفوضة تجارية، لتتمكن بحكم علاقتها الجيدة مع ساسة النظام الحالي، من التنافس والفوز بعقود النفط والسلاح وعدم تركها، كما تذكر في خطاب لها "للصين وروسيا". المعروف أن المفوضة التجارية (أيما نيكلسون) كانت من دعاة "حقوق الإنسان"، والدفاع عن سكان الأهوار والكرد، وعملت بهمة، لا مثيل لها، مع المعارضة في الفترة السابقة للغزو للحث على تغيير نظام صدام حسين واحتلال العراق لإقامة "نظام ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان". وهاهي (نيكلسون) تصاب بالخرس، كما غيرها، إزاء إرهاب نظام المالكي وخروقات حقوق الإنسان المفضوحة.

وبينما يعمل الكثير من الوطنيين سواء في داخل أو خارج العراق، مع ناشطين ومنظمات دولية، للمطالبة بالتعويضات من الدول الغازية، لما ألحقته من خراب بشري واقتصادي، يقوم نظام المالكي، بمنح قوات الاحتلال التعويضات بشكل مباشر (توقيع الصفقات) وغير مباشر (توفير فرص العمل لشركات العمالة الأجنبية)، وغيرها. حيث بلغت قيمة عقود السلاح الموقعة بين نظام المالكي وأمريكا، حتى منتصف 2013، حوالي (12) مليار دولار. كما أعلنت مصادر عسكرية أمريكية عن حصول شركة (مايكل بايكر انترناشيونال) الأمريكية، منذ أيام، على عقد بقيمة (838) مليون دولار لتهيئة قاعدة بلد الجوية لتكون جاهزة لاستقبال طائرات (أف 16) الأمريكية التي تعاقد عليها النظام.

إن موقف المالكي يماثل إلى حد التطابق مطالبة باقر الحكيم، حين كان "الأمين العام للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية" (تغير الاسم فيما بعد)، بتعويض الحكومة الإيرانية (انتبهوا ليس الحكومة العراقية) جراء خسائرها في الحرب العراقية - الإيرانية. وهي سابقة لا تذكر لزعيم حزب يدعي الوطنية. ويبدو أن ذات النسغ "الوطني" يتصاعد في عروق المالكي وبقية مسؤولي النظام، إذ ها هم يتلقون ذات المعاملة التي تلقاها الإدارة الأمريكية من ناحية تقديم التعويضات عبر عقود السلاح. إذ أعلن محمد مجيد الشيخ، سفير إيران لدى العراق، في مقابلة مع وكالة أنباء "تسنيم" الإيرانية أن "العراق قد وقع اتفاقية مع الجانب الإيراني لشراء أسلحة ومعدات عسكرية… وأن وزارة الدفاع العراقية تعتبر المعدات العسكرية الإيرانية فعالة جداً وأنه من الضروري تجهيز الجيش العراقي بمعدات عسكرية إيرانية الصنع".

إذا أخذنا بنظر الاعتبار تأكيد بيان (وكالة التعاون من أجل الدفاع والأمن) الأمريكية المكلفة ببيع أسلحة إلى الخارج أن مشروع بيع الأسلحة المتطورة إلى العراق "يدعم المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة"، والمشروع الإيراني، هو الآخر، لدعم المصالح الاستراتيجية لإيران، فمن الذي سيدعم المصالح الاستراتيجية للعراق؟

- كاتبة من العراق

"القدس العربي" 24/2/2014