النظام العراقي والحرب على الشعب

هيفاء زنكنة - كاتبة من العراق

هناك حالة برلمانية تستعصي على الفهم في العراق الجديد أو لعل الاصح القول إلا في العراق الجديد. ففي كل برلمانات العالم، يتم استدعاء النواب للاجتماع الفوري حالما تحدث أزمة أو كارثة تستدعي التشاور واتخاذ موقف ما من الأزمة. فوظيفة البرلماني، كما هو معروف، هي تمثيل الناخبين والتعبير عن مطالبهم وطموحاتهم. وللحقيقة نقول أن الناخب العراقي الذي شارك بانتخاب النواب، ورفع إصبعه البنفسجي، عالياً، في الهواء، كان على أمل بأن يضعوا حدا لشقائه وبؤسه، حالما يتواجد ساسة شرفاء يخلصونه من القتل اليومي وانعدام الخدمات.

إلا أن المفاجأة تلو المفاجأة كانت بانتظار المواطن ذي الإصبع البنفسجي خاصة من وضع أمله في ساسة يمثلون انتماءه الديني أو الطائفي، على حساب المبادىء والقيم الوطنية. حيث تراوحت مواقف النواب من انحدار إلى آخر. فمن التهافت على الفساد إلى تبرير الإرهاب الحكومي. ومن تقسيم البلاد إلى السكوت على حالة الحرب المزمنة بحجة، باتت لفرط ضحالتها، ملهاة لا يتقبلها عاقل. ملهاة تم تصنيعها وتعليبها في أمريكا لتروج بين البلدان، من بينها العراق، باسم "الحرب على الإرهاب".

الملاحظ أنه ليست هناك حكومة عربية أو إسلامية أكثر حماساً وحمية من الحكومات العراقية المتعاقبة للمشاركة في "الحرب على الإرهاب". وهو من الأعراض المرضية التي ترسخت أكثر فأكثر في ظل نظام "حزب الدعوة" بقيادة أمينه العام نوري المالكي, مما جعل العراق ساحة حرب مستمرة، وأن اختار النظام وساسته التعامي عن هذه الحقيقة عن طريق وصف الوضع بنعوت على غرار "أعمال عنف" و"هجمات إرهابية" و"حالة نزاع"، ليتصرفوا وكأنهم لا يحكمون بلداً بل يكتبون تقريراً لصالح منظمة مجتمع مدني تستجدي الدعم الخارجي. وإلا كيف يفسر عدم دعوة النواب للاجتماع وهناك حرب طاحنة، تدور في العديد من المحافظات منذ ما يزيد على الشهر، وهي أكثر قسوة بحصارها وقصفها العشوائي، من الحرب ذات المستوى المتدني الذي يعيشه العراق، بشكل دائم، منذ عشرة أعوام؟ كيف يفسر عدم حضور النواب لمساءلة الحكومة، وهو من صلب واجبهم، عن عدد الضحايا الذي وصل خلال الشهر الماضي إلى 1013 قتيلاً و2024 جريحاً، مع العلم أن معظم الجرحى يموتون نتيجة قلة الرعاية الصحية؟

كيف توصل النواب إلى أنه ليس من الضروري عقد اجتماع لمناقشة حالة الحرب الحكومية المعلنة على محافظة الأنبار وحالة الحرب المنخفضة في بقية أرجاء العراق، باستثناء "إقليم كردستان"، وقد تجاوز عدد المهجرين 140 ألف شخصاً وضحايا القصف والهجوم حوالي 650 مواطناً؟ وكيف يمكن تقييم مواقف نواب يتذبذون، عند بروز الحاجة إلى تسجيل موقف ما، ما بين الانسحاب من البرلمان احتجاجاً في فترة الصباح ليعودوا بعد عقد صفقة ما مساء، وهكذا دواليك؟

ومن يظن أن وصف الوضع بالحرب غير صحيح، عليه قراءة عناوين بعض الأحداث الدموية، وليس كلها، خلال الأيام القليلة الماضية فقط. آخذين بنظر الاعتبار، أنها صادرة عن مصادر النظام نفسه.

أعلنت قيادة عمليات الأنبار، يوم السبت، حظراً للتجول في مدينتي هيت والرمادي، استعداداً لإطلاق عملية أمنية واسعة لـ"تطهير مناطق جنوبي الرمادي من عناصر "داعش" الإرهابية"!. وأعلن المستشار العسكري لوزارة الدفاع "أن العد التنازلي لاقتحام الفلوجة قد بدأ، مبيناً أن المهلة التي أعطيت للعشائر قد انتهت"!. وأفادت مصادر حكومية "أن القوات الذهبية (التابعة لمكتب المالكي) بدأت بإغلاق مداخل المدينة الثلاثة مع إبقاء المدخل الشرقي لها مفتوحاً"!. استشهد مدني وأصيب أربعة آخرون بانفجار عبوة ناسفة في قضاء الطوز شرقي محافظة صلاح الدين. تمكنت قوات الجيش من "تدمير وكر لتنظيم داعش الإرهابي" في مدينة كركوك و قتل أحد أمراء التنظيم الإرهابي في كركوك وجرح أحد مساعديه في حين أن العمليات العسكرية ما تزال مستمرة لتطهير العراق من شرور الإرهاب و تدمير أوكاره"!. أعلن الناطق باسم وزارة الداخلية أنه قد تم "اعتقال إثنين من الإرهابيين وأربعة من المطلوبين في تكريت"!. و"أدى انفجار عبوة ناسفة في قضاء التاجي إلى مصرع شرطي وإصابة اثنين آخرين بجروح خطيرة"!. أما في بغداد فقد "هوجم مطار بغداد الدولي بثلاثة صواريخ كاتيوشا. وأدى تفجير وسط العاصمة إلى مقتل وجرح خمسين مواطناً. أعلنت فرقة المشاة 12 أنها "قتلت تسعة إرهابيين ودمرت معسكرين وفجرت عشرة سيارات ملغومة لتنظيم "داعش" خلال عملية أمنية في حمرين". كما أعلنت قيادة العمليات المشتركة عن "مقتل واعتقال 23 عنصراً من تنظيم "داعش" الإرهابي، فيما أكدت ضبط 140 عبوة ناسفة ولاصقة خلال الـ72 ساعة الماضية في الساحل الأيسر من مدينة الموصل"!. وقالت القيادة في بيان لها، إن "قيادة فرقة المشاة الثانية ألقت القبض على 5 إرهابيين واستولت على معمل لتصنيع العبوات"!.

إن النظام الحالي، خصوصاً كتلة المالكي نفسها، كما هو موثق ومعترف به من سياسييه أنفسهم، نظام متأزم منخور، يراوح بين إرضاء المصالح الأمريكية والإيرانية، وهو توازن يشتط مرة بهذا الاتجاه ومرة أخرى عكسه، معتمداً على غياب المشروع الوطني العراقي لدى فئات العملية السياسية. فالولايات المتحدة لم تنجح في خلق التوازن بين حلفائها الذي حققته بريطانيا بعد ثورة العشرين في القرن الماضي عبر النظام الملكي. إلا أنها لا تكف عن رمي الفتات للساسة لالتقاطها كما يفعل مربي الطيور لتدجينها. وينعكس ذلك بوضوح على نواب البرلمان كما بقية الساسة، ومثال ذلك ترتيب الزيارات إلى واشنطن لالتقاط الفتات. آخرها كان ترتيب زيارة صالح المطلك، نائب رئيس الوزراء، وأسامة النجيفي، رئيس البرلمان، باعتبارهما، كما يقدمان نفسيهما، "ممثلين عن السنة"!.

في غياب عوامل القوة الفعلية والكفاءة الإدارية والنية المخلصة لخدمة الشعب كله لا لخدمة طائفة أو عرق معين لدى سياسيي العملية السياسية من جهة، وفي غياب عوامل الرضا العام لدى الناس، لم يعد بيد النظام، للمحافظة على بقائه، غيرالطائفية والفساد وشراء الذمم، وتوريط أكبر الشرائح في الفساد ليجعلهم شركاء مؤقتين معه. وهذا التوريط بالفساد، وما يؤديه لقوقعة الناس في حالاتهم الفردية والمحلية، وتجميد بحثهم عن المصلحة الوطنية العامة، وشراء سكوتهم عن القمع على شرائح المجتمع الإخرى، أسلوب استخدمه الاحتلال، بل استخدمته بدرجات، جميع الأنظمة التي تأتي بدون قاعدة اجتماعية واسعة، وتمتلك الثروة العامة، كما هي حكومات البلدان الثرية بالنفط عموماً.

ويأخذ التوريط بالفساد أو المشاركة فيه أشكالاً متعددة مثل آفة تستشري وتؤجج الشحن الطائفي، وتنخرط فيها قوى انتهازية كثيرة، بضمنها، الأحزاب القديمة التي لم نعد نسمع لها صوتاً والعشائر المتناحرة للحصول على المخصصات. لكن وصفة التورط بالفساد العام وصفة لا تدوم طويلاً حتى بدون الثورة الشعبية التي تلوح في الأفق، ولا يؤخرها إلا حاجة الرافضين للعملية السياسية برمتها لضمان كون حركتهم عراقية عامة وغير مقتصرة على المحافظات الثائرة منذ الاحتلال. وهو اقتصار يستخدم اليوم طائفياً. ومن هنا تأتي ردود أفعال نظام المالكي الوحشية والتخبط الإعلامي والسياسي والأمني، واختراع إرهاب "داعش" وتضخيمه حسب الحاجة، وعودة "الصحوات" هنا وضربها هناك، وتأجيج المشاحنات مع الدول العربية مع التلويح بالأخوة معها. ومن هنا، أيضاً، اضطرار النظام والسياسيين (بسنتهم وشيعتهم) للجوء إلى الولايات المتحدة كوسيط سياسي، واستجداء دعمها الأمني تجاه غضب الشارع المنتفض في العديد من المحافظات والمدن. وهذا يجعل الساحة العراقية جزءا من مسارات التسوية الثلاثة الرئيسية في المنطقة: مسارات التسوية السورية، والإيرانية، والفلسطينية.

"القدس العربي" 3/2/2014