أنه العراق الذي نعرفه
هيفاء زنكنة - كاتبة من العراق
في كنيسة قديمة يصفها كثيرون بأنها الأجمل بين كنائس لندن، جلس مئات العراقيين والعرب والأجانب، ليصغوا بقلوبهم إلى قصة العراق، يرويها الحكاة مزامير وموسيقى. جمعتهم أمسية نظمتها مجموعة (تضامن المرأة العراقية)، احتفاء بثقافة وتراث الشعب العراقي، وتعبيراً عن سعي العراقيين الدائم إلى بث روح الأمل في مسيرتهم نحو السلام والعدالة، على الرغم من كل الكوارث اليومية التي يعيشونها.
فمن التراتيل والابتهالات الآرامية النابعة من بلاد ما بين النهرين للتعبير عن الرثاء والتوبة، إلى الموسيقى الكلاسيكية المبنية على المقام. ومن ملحمة جلجامش بحثاً عن الحياة الأبدية إلى موسيقى المنفى، كان الحاضرون من العراقيين يرون العراق الذي يعرفونه ويسعون للمحافظة عليه. عراق واحد غني بأهله وتاريخه وحضارته. معتد بكرامته ومساهماته الإنسانية. فخور بتواضع لا يليق إلا بمن يمتلك قوة داخلية.
أثناء الأمسية، رتل الموسيقي الأكاديمي العراقي بهنام كيرو، بالآرامية، لغة السيد المسيح، مزامير تعود إلى مهد الحضارة، برفقة عازف العود الايطالي (فرانشيسكو إيانوزيلي). هذه المزامير الممتدة عميقاً في حضارة بلادنا والتي عثر عليها مخطوطة على ألواح الطين، رتلها بهنام معجونة بالمقام العراقي لتكون شاهداً على مشاعر الإنسان الأزلية: الحنان والحب والمعاناة والخوف من الموت، وقبل كل شيء، الإحساس بالأمل. إنه التواصل الثقافي، عبر العصور، متمثلاً بكلمات رائعة في بساطتها، أنها روح العراق القديم ينقلها المقام إلينا بشكل أحدث. إذ يخبرنا باحثون بأن المقام يعود إلى العصر العباسي، أيام كانت بغداد عاصمة الحضارة الإسلامية، بينما يخبرنا آخرون أنه يعود إلى ذات عصر المزامير الآرامية، فلا عجب أن تنشد المزامير بمقامات تتنقل ما بين الحجاز والعجم والصبا، ليصبح المقام رمزاً ثقافياً لوحدة العراق وتواصله الحضاري، كما تقول د. شهرزاد قاسم حسن، الباحثة في علم الموسيقى ومؤسسة مركز التراث الموسيقي ببغداد عام 1971.
وكانت للعصر العباسي إنجازاته الهائلة في إغناء الحضارة الإنسانية ومن بينها الموسيقى والغناء. حيث اشتهر اسحاق الموصلي وتلميذه المغني والموسيقي زرياب الذي هاجر من بغداد إلى قرطبة في القرن التاسع الميلادي ليؤسس مدرسة موسيقية تضم أبناءه الثمانية وابنتيه إضافة إلى عدد آخر من المغنين. وتعتبر هذه أول مدرسة أسست لتعليم علم الموسيقى والغناء وأساليبها وقواعدها أو ما أطلق عليه اسم (الغناء المتقن). وقد أدخل زرياب على فن الغناء والموسيقى في الأندلس تحسينات كثيرة ليصبح تأثير الغناء والموسيقى العربية واضحاً، حتى يومنا هذا، على أنماط الغناء الأوبرالي الغربي مثلاً. وقد قدم مغني الأوبرا العراقي الأرمني خاجادور بيليكيان، في الأمسية، عشرة نماذج من أغاني الأوبرا ن بعدة لغات، وكلها متأثرة بضروب الغناء العربي وإحياء لذكرى زرياب. وأصغى الحاضرون إلى معزوفة (قرطبة)، التي عزفها على البيانو، الموسيقي العالمي والمرشح لجائزة نوبل للسلام (ألبرتو بورغيتيس) (الأرجنتين) ففاحت في الجو رائحة الياسمين المسكرة وسط أشجار النخيل المتمايلة مع الأنغام المغربية التي التقطها (آل بانيز) مؤلف المقطوعة الإسباني، تصويراُ لواحدة من ليالي ألف ليلة وليلة التي طالما سكنت مخيلته واختلطت بأجواء مدينته قرطبة.
ومن إسبانيا والأرجنتين إلى إيطاليا، حيث عزف الإيطالي (فرانشيسكو أنوزيلي) ثلاث مقطوعات على العود لمؤلفين عراقيين. فما الذي جعل (فرانشسكو) يكرس حياته لدراسة العزف على العود والإلمام بالمقام وتعلم اللغة العربية؟ ليقترب أكثر من الموسيقى العربية؟ إنه ذات الجنون الرائع الذي يجعل العراقيين يعتقدون بأن العود هو روح الموسيقى العراقية، وأنه، لا غيره، سلطان الآلات الموسيقية قاطبة. كان العود هو الآلة التي استخدمها الفارابي (القرن التاسع ميلادي) العالم والفيلسوف وعالم الكونيات والموسيقي، ومعه الكثير من العلماء الآخرين، لتوضيح نظرية الموسيقى العربية. وآلة العود متجذرة بعمق التاريخ العراقي. إذ أن أقدم سجل مصور للعود يعود إلى فترة أوروك، منذ أكثر من 5000 سنة، في جنوب بلاد ما بين النهرين (مدينة الناصرية)، ويظهر على ختم أسطوانة موجودة، حالياً، في المتحف البريطاني. بمرور الزمن، واستخدام العود من قبل فرق موسيقية مختلفة وبضمنها الموسيقى والأناشيد الدينية، بات المعتقد بأن لموسيقى العود فعلاً مهدئاً للأعصاب. يقول الكاتب محمد شهاب الدين، في القرن التاسع عشر ببغداد: "إنه يضع مزاجي في حالة توازن"، كما كتب "إنه يهدئ وينعش القلوب".
وإذا ما كان للعود تأثير مهدىء، فأن البيانو، وهو الآلة الغربية، أصبح ذا قوة سحرية حين لمست مفاتيحه أنامل شابة عراقية. وهذا ما حدث حين عزفت الشابة نرمين زنكنة مقطوعة من تأليفها بعنوان (رحلتي إلى بغداد). ساد القاعة صمت لم يعد يسمع فيه غير موسيقى الأنامل المتنقلة ما بين الفرح واللوعة، ما بين السكون التأملي وخفة الروح. ما بين هاجس الوصول إلى بغداد ومغادريتها. بغداد، مصدر الوحي للمقطوعة، هي المدينة التي غادرتها وعمرها أربع سنوات وعادت إليها بزيارة قصيرة، مرة واحدة، بعد عقدين من الزمن. فكانت العودة إلى الوطن الأم الجامعة ما بين نسيج الحب واللهفة وألم الرحيل الذي رافقه رحيل والدها الذي أهدت المعزوفة اليه.
ولأننا، عموماً، نخشى الفرح ونتعوذ من الشيطان إذا ما حدث وشعرنا بالسعادة اأكثر مما يجب، فالسعادة، بأذهاننا، غالباً ما تليها ضربة من ضربات القدر المؤلمة، كان لا بد من اختتام الأمسية بتقديم مقاطع من ملحمة جلجامش. وكأن أصل الخوف لم يتغير منذ آلاف السنين حيث (يسلط الآلهة على الأحياء الأحزان، وتسلط الرؤى على الباقين من الأحياء الأحزان). وما كان للأمسية أن تكون عراقية بدون جلجامش، كما ذكرت، عريفة الحفل، الصحافية والكاتبة البريطانية (فكتوريا بريتن). والملحمة هي واحدة من أقدم النصوص الأدبية المكتوبة، يسميها الآثاري الراحل طه باقر، بأنها (أوديسة العراق القديم وأنها ذات جاذبية خاصة لأن القضايا التي أثارتها وعالجتها لا تزال تشغل بال الإنسان وتفكيره) من بينها أصل الوجود والأشياء، والحياة والموت وما بعد الموت وإرادة الإنسان ودور القدر. فعاد بهنام كيرو لينشد رثاء جلجامش وبكائه على صديقه انكيدو الذي يعتبره طه باقر (أبلغ رثاء في تاريخ الحب والصداقة)، مختتماً الرثاء ببدء رحلة جلجامش في البحث عن الأمل.
"القدس العربي" لندن 3/3/2014