أصغر دولة عربية اخترقت المحرمات بسفيرة في واشنطن تهاجم أوباما

ملك البحرين عين هدى نونو سفيرة في واشنطن فثارت ثائرة الإيرانيين والممانعين الذين فعلوا كلّ شيء إلا استعادة أراضيهم من إسرائيل.

إبراهيم الجبين

للسياسة مذاهب، وأبواب ومداخل شتى، والدولة التي تبحث في حلول أفضل تمكنها من تحقيق مصالحها، من خلال هويتها الوطنية، تكون أكثر براعة سياسياً، وكي يتحقق هذا، لا بد من تجاوز الكثير من الحواجز التي عاشت طويلاً في الذهن، وفي الذاكرة الجمعية، أو فرضت فرضا على الناس والمجتمعات، دون أن يكون لها أسس أخلاقية منسجمة مع الحريات والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان.

حين أصدر ملك البحرين قراره بتعيين مواطنة بحرينية، في منصب سفيرة لبلاده في واشنطن، ثارت ثائرة الذين اعتادوا توجيه الاتهامات، مستندين إلى دين السفيرة اليهودية هدى عزرا نونو، وكان لإيران دور كبير في تحريك المحتجين على هذا القرار، من البحرينيين، في رعايته لما يسمى بخط الممانعة، بينما تبيح لذاتها ومؤسساتها التواصل التام والتنسيق مع الولايات المتحدة وحتى مع إسرائيل، وليست "إيران غيت" بعيدة عن الأذهان، حين اشترت إيران السلاح الأميركي والإسرائيلي في حربها ضد العراق، وفي الوقت يتساءلون لماذا يعاملنا العالم بعنصرية! ولا يطرحون في ملف المساواة مسألة يهود الشرق الذين وقع عليهم ظلم مزدوج، بعد أن كانوا شركاء في الحياة والمجتمع والثقافة والسراء والضراء، فاختطفتهم إسرائيل، لتنمي تكوينها الاستيطاني وتظهر بمظهر الأم التي تسترد أبناءها، بالتنسيق مع بعض الأنظمة العربية حينذاك وبمباركة غربية، ليبدو الأمر وكأن الشعوب العربية المسلمة والمسيحية هي من طردهم، وكرّست حكومات وأنظمة الاستبداد المخابراتية التي استعملت القومية العربية هذا المبدأ، حتى باعت الشعوب وتاجرت بها، فصارت تقول للغرب انظروا كيف عاملت شعوبنا يهود المشرق، ألا تخشون منهم على بقية المكونات، إنما نقوم بالسيطرة عليهم ضمانا لأمن الأقليات وطبعاً "أمن إسرائيل".

من مدرسة الراهبات إلى إدارة الشركات

دخل جد هدى نونو المجلس البلدي البحريني في العام 1934، عضواً منتخباً، وهو المتحدّر من عائلة يهودية عراقية الأصل، اختارت عائلته البقاء في الخليج بدلاً عن الهجرة إلى "الدولة العبرية"، وكذلك فعل كثير من يهود المشرق والمغرب العربيين، ممن تمكنوا من النجاة من "هولوكوست" التهجير القسري والاقتلاع من البيئة الحقيقية التي عاشوا فيها قرونا طويلة، وعرفت عائلته بالعمل في مجال اللؤلؤ، زراعته وتجارته، فيما يدير شقيقها أبراهام نونو شركة صرافة كبيرة في البحرين ما زالت تعمل حتى اليوم، وكان الوالد عزرا نونو من الركائز الأساسية في النظام البنكي البحريني كما يقول الخبراء من مواطنيه، حيث حظي بالثقة من عملائه ومن الحكومة، واشتهرت شركته لتصبح اسماً كبيراً في عالم الصرافة (بحرين فايننشال كومباني).

ولدت هدى نونو في العام 1964 ودرست في مدرسة للراهبات في البحرين، وفي سن الخامسة عشرة أرسلتها العائلة إلى بريطانيا لمتابعة الدراسة في مدرسة داخلية حيث حصلت على درجة البكالوريوس في المحاسبة من (سيتي أوف لندن بوليتكنك)، وحصلت على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من (أنترناشونال يونيفرستي أوف يوروب) في (ووترفرونت)، لتعود إلى بلادها، وتشغل منصب مديرة لخدمات حاسوب الخليج في إحدى شركات العائلة (غولف كومبيوتر سيرفيسيز)، وفي العام 2004 أسست هدى نونو جمعية حقوق الإنسان البحرينية لمراقبة ورصد انتهاكات حقوق الإنسان في الجزيرة الصغيرة، التي قادها الملك إلى تحولات ديمقراطية عاجلة، ليقف بوجه المد القادم من الشرق الذي مثلته الأطماع الإيرانية العتيقة في الجزيرة، والمواطنون الشيعة البحارنة الذين اخترقت إيران كثيراً من تنظيماتهم وتكتلاتهم، وكانت اهتمامات جمعية هدى نونو بالعمال والخدم في البيوت، إضافة إلى العمالة الأجنبية التي لطالما اشتكت من نظام الكفيل في الخليج، والذي قيّد كثيراً من حرية العمل والتنقل في بلدانه، واهتمت كذلك بشؤون المرأة والطفل، ويعيش في البحرين اليوم 37 مواطناً يهوديا يعملون في مجالات الصرافة والتجارة العامة والأقمشة والعطورات العربية على رأسهم عائلة نونو وروبين ويادكار وخضوري ومراد وغيرهم، إلى جانب قرابة الألف بحريني مسيحي من أصول عربية.

يهود البحرين والوثائق البريطانية

يمكن لمن يبحث في اهتمام الإعلام العالمي بيهود البحرين أن يعثر على ملفات قليلة، صنعتها وكالات الأنباء، تتحدث عن حياتهم التي تميزت باختلاف تصريحاتها وهويتها عن تلك الصورة التي يجري تقديمها ليهود المشرق على أنهم اضطهدوا في البلاد العربية، فاليهودية البحرينية نانسي خضوري تقول لـ"وكالة الصحافة الألمانية": "إنه لا يعجبها ولا يعجب غيرها من يهود البحرين أن يتم إظهارهم من قِبَل الإعلام كما لو أنهم مختلفون عن الغالبية المسلمة في البلاد، أعتقد أن الدّين في البحرين لا يمثل أي عائق في التعامل، فالناس هنا لا يهمهم بشكل عام دين من يتعاملون معهم".

وتضيف "البحرينيون لا يطرحون أبدا السؤال: ما هو دينك؟ وهذا أمر جيد جداً، فهم يحترمون الآخرين، بغض النظر عن أديانهم أو طوائفهم"، وتعتبر نانسي خضوري خبيرة في تاريخ يهود البحرين، ولها كتابٌ عنهم وعن حياتهم، وتؤكد خضوري أن "اليهود البحرينيين الأوائل جاؤوا إلى البحرين في نهاية القرن التاسع عشر قادمين من العراق ومن إيران والهند واستقروا في البحرين لأنهم أرادوا حياة أفضل". وقد كتب مستشار أمير البحرين الأسبق، البريطاني (تشارلز بلغريف)، في مذكراته بأنه لم يكن هناك حينها أي "توتر" بين اليهود والمسلمين في البحرين.

ويرجع عمر يهود البحرين الحاليين إلى العام 1872 بحسب الوثائق البريطانية، وتشير وثيقة محلية لمندوب بريطانيا المحلي للحاج عبد النبي محمد علي صفر إلى أن وجودهم يرجع إلى العام 1862 إذ ذكرت الوثيقة أن أحدهم ويدعى (نسيم اليهودي) كان صاحب أشهر بقالة في المنامة آنذاك، ولكن أحد أحفاده هاجر إلى السويد ويعتبر اليوم أشهر تاجر لبيع السجاد الفاخر من أصل بحريني يهودي يقطن في مدينة مالمو بجنوب السويد، وكتب الرحالة البريطاني (لوريمر) في كتابه "دليل الخليج": إن "اليهود في البحرين كانوا خمسة أشخاص في القرن التاسع عشر لكن أعدادهم تزايدت مع بداية القرن الماضي إذ تمركزوا في البداية عند مسجد الجامع وفي محيط سوق الحراج، وكانت تعيش وتتمحور البحرين هناك بكل أنشطتها الاقتصادية والشعبية، وقد استأجر اليهود ثلاثة دكاكين من فندق اليماني وفي أحدها كان اليهودي كورجي يبيع الاسطوانات وهو واحد من ثلاثة لهم الفضل في إدخال هذه التجارة الفنية إلى البحرين"، وعملوا في تجارة الأقمشة وكان سوق الأقمشة الموجود داخل المنامة يعرف بـ(سوق اليهود) إلى جانب أن نساءهم كن يجدن الخياطة واللغات من بينها الإنكليزية، إذ كانت زوجة المستشار البريطاني (ماري جوري) تستعين بهن في اللقاءات مع البحرينيات وفي كتابة بعض الرسائل لها باللغة العربية.

وبعد ثلاثة عقود اشترى اليهود قرب سوقهم قطعة أرض وبنوا معبدهم "الكنيس" عليها، وقد افتتح رسمياً في العام 1930 وهو مفتوح لليهود ويديره إبراهيم داود نونو بنفسه، ويقع كنيس البحرين في وسط المنامة في شارع صعصعة وهو يستعمل للطائفة اليهودية الأرثوذكسية وهو أقدم كنيس يهودي في البحرين وأول كنيس في منطقة الخليج العربي، تقول عنه هدى نونو: "يوجد بالمنامة معبد يهودي، رغم عدم وجود حاخام، ويوجد عالم مثقف يترأس ويشرف على الاحتفالات الدينية والجنازات، وتأتي إلينا اللحوم المباح أكلها طبقاً للشريعة اليهودية رأساً من لندن، ولكن آخر عقد قرانٍ يهودي تم إجراؤه كان في العام 1965". أما عن نفسها فتقول هدى نونو: "أنا غير ملتزمة دينيا تماماً، ولكني أحتفل بالأعياد الدينية الكبرى، وأواظب على صيام يوم كيبور (يوم الغفران)، وأحترم التقاليد والعادات اليهودية الأساسية، و أظل دائماً بحرينية، أما أخلاقياً وثقافياً، فأنا عربية".

هدى نونو تنتقل للعمل السياسي

بعد عملها سنوات في مجال حقوق الإنسان، واكتسابها خبرات في الشأن العام، وبعد رغبة إبراهيم نونو ترك منصبه السياسي في مجلس الشورى البحريني، للتفرغ لأعماله التجارية، تم ترشيح هدى نونو لشغل المقعد، وتم تعيينها في مجلس الشورى البحريني، للفصل التشريعي الثاني المعيّن في 5 ديسمبر/كانون الأول من العام 2006 لتصبح عضواً في لجنة الشؤون المالية والاقتصادية في المجلس، إلى جانب عضو البرلمان أليس سمعان البحرينية المسيحية التي احتلت منصب النائب الثاني لرئيس المجلس، ثم أصدر ملك البحرين قراره بتعيين هدى نونو سفيرة لبلاده في الولايات المتحدة، وتعيين نانسي دينا إيلي خضوري اليهودية لتحل مكان هدى نونو، وهالة رمزي فايز قريصة المسيحية التي تخلف أليس سمعان، وعن ذلك تقول نونو: "عندما أطلت عناوين الصحف بأن الحكومة بصدد إرسال سفيرة يهودية إلى واشنطن، أغضبني الأمر فعلياً، وتأذيت من تلك الأخبار لأنني بحرينية، إذ أشاروا إلى ديانتي، وتناسوا أنني بحرينية". وتضيف: "أعتقد أنني اُخترت بسبب عملي في مجال حقوق الإنسان، كما أنني كنت دائمة الحديث بصراحة، وهذا ما أوصلني إلى هذا المنصب. ولم أتوقع مطلقاً أن أكون هنا (في واشنطن) وأن أخدم بلادي بهذه الصفة".

عملت هدى نونو في سفارة بلادها، في الولايات المتحدة، وكانت تصرّ على تقديم صورة عربية عن البحرين، وأقامت موائد الإفطار في شهر رمضان، للتعريف بالعادات والتقاليد، وأجابت عن أسئلة كثيرة كانت تواجهها من قبل الأميركيين، من نوع، هل بإمكانك المشي في الشارع بلا حجاب؟ هل تتعرضين للتمييز والاضطهاد لأنك يهودية، والتقت بالمسؤولين الأميركيين وعلى رأسهم الرئيس جورج دبليو بوش، الذي قالت عن لقائها به إنه كان مربكاً في البداية، "ثم بعد قليل أصبحنا نتعامل كأصدقاء".

مهاجمة أوباما والعودة إلى المنامة

وفي نوفمبر/تشرين الثاني صدر عن الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد قرار بنقل هدى عزرا إبراهيم نونو – رئيس البعثة الدبلوماسية البحرينية لدى الولايات المتحدة الأميركية، إلى الديوان العام في وزارة الخارجية، ليصدر قرار ملكي بتعيين الشيخ عبد الله بن محمد بن راشد آل خليفة خلفاً لنونو وسفيراً لبلاده في واشنطن بلقب سفير مفوض فوق العادة، ويقول المحلل السياسي (سايمون هندرسون) مدير (برنامج الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن)، "هدى نونو التي خدمت سفيرة لبلادها منذ العام 2008، والتي كانت جديرة بالإشادة كونها امرأة (وهي ظاهرة نادرة بين سفراء الدول العربية) وعضو في الجالية اليهودية الصغيرة جداً في البحرين"، وتمثل العلاقة بين واشنطن والبحرين على حد تعبير (هندرسون)، "أهمية جوهرية بالنسبة إلى السياسة الأميركية في الخليج العربي لأن الجزيرة تستضيف مقر الأسطول الخامس، ولكن تلك العلاقات شابها التوتر منذ العام 2011"، وفي رأي (هندرسون)، سيتعين على مبعوث البحرين الجديد التعامل مع أعضاء متحفظين في الكونغرس الأميركي، و"الذين يعتقد بعضهم أن على الولايات المتحدة أن تغلق قاعدتها في الجزيرة"، ولكن هدى نونو لم تكن على توافق تام مع الموقف الأميركي في واشنطن كما يخطر للبعض، فقد عمل الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) على التذكير بما يحدث في البحرين مقارناً إياه بما حدث في العراق وما يحدث في سوريا، وأشار في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى "الجهود لحل التوترات الطائفية التي مازالت تظهر في مناطق كالعراق والبحرين وسوريا". فسارعت هدى نونو إلى انتقاد أوباما والكتابة على مدونتها الرسمية، إنها تشعر "بخيبة أمل لسماع أوباما يقارن الوضع في البحرين بالوضع الحالي في العراق، والمآسي الدائرة في سوريا". واعتبرت نونو أن "مثل هذه المقاربة المغلوطة لا جدوى منها، سوى إرباك هذا العمل المهم".

وبالتجربة البحرينية، في المغامرة بتعيين سفيرة يهودية لدولة عربية، يمكن الاقتراب من فهم إحدى أكبر مشكلات الواقع العربي مجتمعياً، والتي مثّلها تمزيق الهوية الوطنية، لحسابات دينية وطائفية، تم تصنيعها واستيرادها من نزاعات خارج العالم العربي، فانعكست أحداث أوروبا و"المحرقة اليهودية" على العلاقات ما بين العرب من مسلمين ومسيحيين ويهود، وبات العرب يعدّون التفرقة العنصرية من البديهيات إن كان الأمر يتعلق بيهود المشرق، بينما يطالبون بتطبيق المساواة بين الجميع في كل الملفات، ولا يجب التغاضي هنا عن دور المؤسسات "الإسرائيلية" العالمية، ومن يخدمها في أنحاء العالم العربي في إذكاء هذا النوع من التفكير، واعتبار اختراقه كفراً صراحاً ودعوة للتطبيع مع العدو، ولكن من هو العدو؟ إسرائيل التي احتلت أرض العرب؟ أم اليهود العرب الذين لا يختلفون بشيء عن مسيحيي الشرق ومسلميه وطوائفه؟

"العرب" لندن 5/1/2014