من أوراق المفكرة: الويل للرعاة الذين يرعون أنفسهم

الأب إبراهيم سرًوج

جاءتني السيدة ماروز من اللاذقية، المدينة النائمة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، والتي يسميها الشماس سبيرو جبور قلب كنيسة أنطاكية النابض لشدة مواظبة أهلها على الصلاة والغيرة على أمور الدين. جاءت إلى لبنان حيث الحرية الدينية متوفرة وبإمكان المرء أن يغيّر مذهبه متى شاء وليس على المؤمنين حرج. أما في مدينتها وفي العالم العربي كله فلا تغيير في المذهب إلاّ إلى الإسلام. فالأرثوذكسي أو المسيحي إذا أحبّ فتاة مسلمة وأراد أن يتزوجها لا يقبل منه إلاّ أن يتحول إلى الإسلام. وإذا أصر على موقفه فلا تسجل واقعة الزواج وتعتبر مساكنته لمن أحب غير شرعية ويمكن لشرطة الأخلاق أن تسوقه إلى السجن.

ماروز وصلت إلى لبنان، وهي بالمناسبة متزوجة وأم لطفلين ولا تطلب الزواج لنفسها، بل لأخيها وهو مصر على البقاء في أرثوذكسيته ولا يريد أن يكون منافقاً ويغيّر دينه شكلياً. جاء بها بعض معارفها ومن أهل بلدها إلى الكاهن اللبناني يسألونه العون. استقبلهم الكاهن بالترحاب وهو معتاد على هذه الأمور وقال لهم: الأمر سهل ولكن حله ليس بيدي، بل بيد مطران الأبرشية وهو الآمر الناهي في رعيته وما يقرره هو يكون نافذاً على الفور. تأخذون الأذن منه بإجراء الزواج وتعودون إليّ لنقيم المراسم الشرعية.

ذهبت ماروز فرحة كبياعة الحليب التي تحدث عنها الشاعر لافونتين الفرنسي وكانت تحلم بأن أمورها ميسرة وما عليها إلاّ أن تطلع الأسقف على دعواها حتى يستجيب لشكواها. وصلت إلى دار المطرانية فلم تجد سيدها في الدار، بل وكيله. أبلغته بالأمر وقال لها: عودي بعد يومين وسنرفع شكواك إلى سيدنا وعنده الحل والربط. سمعت المسكينة ولا حول لها ولا قوة وعادت إلى صديقتها بخفّي حنين. وبالمناسبة أخبرني أحدهم أن تكاليف الطريق ذهاباً وإياباً مع قسيمة المرور على الحدود السورية اللبنانية، لا تقل عن عشرة آلاف ليرة سورية واليوم هي إيجار موظف في أرض الشام لمدة شهر كامل. طبعاً الرؤساء غير معنيين بما يصرف الفقراء ولا بما يتكبدون من مشاق سفر أو طعام أو إقامة. عادت ماروز في الموعد المضروب ولكنها فوجئت بأن صاحب السيادة مشغول ولا يستطيع أن يقابلها إلاّ بعد خمسة أيام. خرجت من المطرانية تجرجر أذيال الخيبة وتذكرت المرأة الفينيقية التي شبهها المسيح بجراء الكلاب ولكنها في النهاية تلبي طلبها وشفيت ابنتها. أما هي فقد طردت من الهيكل ولم تجد من يسمعها.

تذكرت الكاهن الأول الذي استقبلها وإلى الطريق دلّها. لقيت عنده باباً مفتوحاً وصدراً مرحباً. أشار إليها إلى حل آخر عند كاهن ينتمي إلى كنيسة شقيقة ويمتلك فانوساً سحرياً يحل كل المشاكل، ولكنه حذّرها من أن شهيته للمال كبيرة وأن قلبه قد نزع منه مشاعر الرحمة والشفقة.

سارت إليه على بركات الله تستدعيه كي يجعلها تغلب الشياطين وهي جحافل.

الكاهن المتمرس يعرف مهنته جيداً وبلا مقدمات ولا تشريفات، قال لها أن القضية تكلفها ألفاً من الدولارات. انذهلت ماروز، تعجّبت، تنهّدت، تأوهت ومن ثم صرخت، لكن هذه الأفعال كلها على قوتها لم تنفعها شيئاً. أردف القسيس (خيتو هذه أسعارنا وإذا وجدت مكاناً أفضل وأرخص تذهبين إليه). وبعد أخذ وردّ والكاهن - بالمناسبة أصله من بلاد آرام (الشام)، وصل المبلغ إلى ثمانماية دولار أميركي، بشرط أن تأتيه بإذن من مطران العريس يسمح له بإجراء الإكليل عند الكنيسة الشقيقة.

وهكذا بسرعة البرق جاء العريس وعروسه من اللاذقية مع السماح المطلوب وخلال نصف ساعة أو أكثر، صارت الهاربة زوجة شرعية أمام الله والناس. لكن أمام الدولة السورية، لا يسجل الزواج إلاّ عندما تنجب المرأة وعندها تسجل واقعة الزواج لرجل أرثوذكسي وامرأة باسمها الأول ومجهولة باقي الهوية.

أمام هذا الواقع الأليم طالبنا بطاركة الروم وغيرهم أن يطالبوا بأن تقبل الدولة السورية بتسجيل واقعة الزواج دون أن تغيّر مذهب أي من الطرفين. وهكذا يبقى كل على دينه وخاصة أن الإسلام يقول (لا إكراه في الدين). نرجو أن يلاحظ التغيير الجديد في سوريا مثل هذه الأمور ليحيا الناس بعزة وكرامة. كما نرجو من الرعاة أن يلتفتوا أكثر إلى القطيع الذي اؤتمنوا على رعايته ولا نطلب منهم أن يبذلوا أنفسهم في خدمة الخراف.

جريدة "الإنشاء" طرابلس - لبنان 21/2/2014