الهدية (ولِيّة)

جعفر عباس

قبل أيام قليلة، كنت أقلب أوراقاً قديمة، وما أكثرها لدي، لأنني أهوى جمع القصاصات، وكل ما هو مصنوع من الورق، بما في ذلك العملات الورقية ولدي عملات من نحو ستين دولة، تساوي ثروة لا بأس بها، ولا أظن أن قيمتها مجتمعة تقل عن عشرة دولارات أمريكية!! المهم أنني عثرت على وثيقة زواجي، وكانت تحمل تاريخ نفس ذلك اليوم الذي كنت أقلب فيه الأوراق، فوقفت أمام المرآة، ولم أعرف الشخص البائس الذي كان يقف قبالتي وهتفت: حسرة على شبابك يا أبو الجعافر.. مرت كل تلك السنوات عليك وأنت متزوج بواحدة فقط فعلت بك كل هذا!! وتذكرت ذلك اليوم عندما اجتمع أهلنا وأصدقاؤنا وقضوا على مدخراتي خلال سويعات حشوا فيها بطونهم، وكأن تلك الوجبة كانت آخر زادهم في الدنيا!! ثم ألقيت نظرة حانقة على المرآة، وغادرت البيت وذهبت إلى متجر من النوع الذي يعكس بلاطه صورتك، واشتريت لزوجتي هدية محترمة وغلفتها، وعدت إلى البيت وقدمتها إليها، فحسبت الأمر مقلباً، ورفضت فتح الهدية، فقلت لها: اليوم يصادف ذكرى فوزك بعريس لقطة وقد قررت أن أهديك شيئاً، لأن المهر الذي قدمته لك ربما لم يكن يليق بمقام حضرتك، (مهرها بسعر صرف الجنيه السوداني اليوم لا يساوي واحد على المائة من الدولار، ولم يكن ذلك بعد معركة القادسية بل في العقد الثامن من القرن الماضي) المهم.. أعجبتها الهدية، ولكنها صارت تشك في قواي العقلية: أنت تتذكر يوم زواجنا وكمان تديني هدية؟ أكيد أنت مش طبيعي!! شارب شيء؟. وحمدت الله الذي وهبني زوجة متخلفة، فغيرها يضرب البعل بالشبشب لأنه لم يأت بالكعكة المسماة تورتة، ولم يدع الأهل والعشيرة إلى المناسبة الميمونة!! وجلسنا نتذكر أيامنا الأولى، وكيف أن راتبي الذي كان في حدود ثمانين جنيهاً سودانياً كان يغطي احتياجاتنا بل نتصدق منه، ثم كيف تضاعف الراتب ألف مرة بعد أن منحتني الدول الخليجية مشكورة حصتي من عائداتها النفطية، فما زادنا ذلك إلا شكوى من شح الموارد المالية!!.

ثم قرأت في صحيفة مهاجرة كيف أن العرب صاروا متحضرين ومتعولمين، ففي إحدى العواصم العربية صارت الموضة أن يقدم الأغنياء بعضهم إلى لبعض هدايا مبتكرة.. يتسلم الوجيه فلان في (عيد ميلاده) مغلفاً ضخماً ويفضه فإذا بداخله حسناء من شحم ولحم في منتهى الجمال والروعة.. أي والله.. تقول الصحيفة إن الموضة هي أن يهدي زيد لعبيد سكرتيرة حسناء، ويتحمل مقدم الهدية راتب السكرتيرة الهدية لسنة كاملة أحياناً، وتروي الصحيفة كيف أن صاحب شركة مواد تجميل كان مديناً لصاحب محل أثاث، ورأى الدائن سكرتيرة المدين فأعجب بها فما كان من الأخير إلا أن أهداها إياه، وبكل شهامة تنازل تاجر الأثاث عن الدين، وتقول إحدى الفتيات اللواتي تم تقديمهن كهدية لصاحب شركة إن المسألة "ما فيها شيء"، وإنها تلقى معاملة خاصة في الموقع الجديد من حيث الراتب والمزايا!! ولا شك أن هذا يمثل طفرة في العلاقات الاجتماعية بين الطبقة المخملية، ولكن تلك الطفرة تسمى في القاموس الصحيح "قوادة"، فمقدم الهدية قواد، والبنت التي ترضى أن يتم تغليفها وتقديمها كهدية.. وتهذيباً للفظ الصحيح "رخيصة" مهما ارتفع راتبها!. (كلمة "رخيصة" تعتبر وصفاً محترماً لمثل تلك الفتاة ولكن هناك اعتبارات أخلاقية تمنعني من استخدام اللفظ المناسب لوصفها).

jafabbas19@gmail.com

1/2/2014