مِهن ومِحن (20)

جعفر عباس

كل صاحب مهنة لا بد أن يعاني من محنة من نوع أو آخر، أو يعاني من يتعامل معه من (محنة)، وتناولت في مقالين سابقين مهنة الضيافة الجوية، وكيف أنها صعبة ومرهقة، وأعربت عن عجبي لكون الكثيرين يعتبرونها المهنة الحلم، لكونها تتيح لهم السفر إلى بلدان عديدة والإقامة البلوشي في الفنادق، والأكل البلوشي طوال ساعات العمل وربما بعدها، ومازلت عند رأيي بأن صاحب تلك المهنة يعيش حياة الغجر / النَّوَر، بس على مستوى، لأن الغجر يضيقون بالمقام في مكان واحد، وهناك أمر آخر يعيب تلك المهنة وهي أن سن التقاعد فيها تأتي مبكرة، فالمضيفة الجوية الحسناء الممتلئة عافية وفتوة غالبا ما تحال إلى الأرشيف أو يقال لها: شكر الله سعيك.. أعطنا عرض أكتافك، وصاحبها الشاب سيم سيم، فتلك المهنة لا ترحب بمن يتجاوزون الأربعين، ولا أظن أن هناك جهات عمل كثيرة تفتح أبوابها لمن هجروا مهنة الضيافة الجوية بعد اجتيازهم لحاجز الأربعين! فكم جهة (غير الفنادق والمطاعم الراقية جداً) ستقول لمن ترك مهنة الضيافة الجوية بعد أن قضى فيها عشرين سنة: يا هلا يا مرحبا أنت الشخص المناسب لهذه الوظيفة؟

وأتوقف لأقول إنني لا أقلل من شأن هذه المهنة فمن يمتهنونها سعداء بها وأجورهم عالية وقد يعشقون فعلا الانتقال من بلد إلى آخر باستمرار، ولكنني أعتبرها مهنة شاقة، ولا تعطي من يعمل بها أي إحساس بالاستقرار (ما لم تكن مقاييسه ومعاييره للاستقرار مختلة)، وأصعب ما فيها التعامل المتواصل مع البشر بأقصى درجات التهذيب، وبين البشر على الأرض والجو أقلية مجبولة على التعامل مع الآخرين بأقصى درجات الجلافة والوقاحة، وهذه الفئة تتعامل مع طاقم الضيافة الجوية كأنهم خدم في بيوتهم: هاتي كذا وشيلي الزفت هذا.. لا (بليز ولا ثانك يو).

وإذا كان هذا رأيي في مهنة الضيافة الجوية، فماذا أقول عن الطيارين؟ لحين طويل من الدهر كنت أحسب أن يختار عمدا كلية الطيران، شخصا غير طبيعي وذا ميول انتحارية، ثم هجر الجامعة زملاء لي كانوا على درجة عالية من التفوق الأكاديمي ودرسوا الطيران وصاروا طيارين، وحاولت إقناع بعضهم بمنطق: يا عزيزي لديك عائلة ظلت تعد السنين في انتظار يوم تخرجك في الجامعة ودخولك الحياة العملية لتعود عصر كل يوم حاملاً اللحم والفواكه والخس والخيار. هل تقبل لنفسك أن تعيش أمك في قلق وأنت معلق بين السماء والأرض ليل نهار ولا تراك إلا لساعات معدودة في اليوم بل ربما في الأسبوع؟ والتقيت بكثيرين منهم عرضا خلال أسفاري، ووجدتهم سعداء بعملهم واكتشفت بعد دخولي الحياة العملية بعشرين سنة أن الطيار الجديد في الكار (المهنة) يكسب شهرياً أكثر مما أكسبه أنا رغم (خبرة) العشرين سنة.

ومثل كثيرين من أبناء جيلي الذين يعتقدون (ولو في صمت) إلى يومنا هذا أن هناك أشخاصاً مختبئون داخل كل جهاز تلفزيون، لأن الزعم بأن صورهم تأتي إلى كل البيوت عبر الهواء (كلام فارغ)، فقد ظللت في قرارة نفسي مقتنعا بأن ركوب الطائرة (دعك من قيادتها) مجازفة لا تليق بشخص بالغ وراشد وعاقل، وظل سوء الظن بالطائرات يلازمني إلى يومنا هذا، وتحول سوء الظن إلى كابوس عندما دعاني صديق (كابتن) إلى قمرة القيادة قبل هبوط الطائرة في ذات مطار، وجلست هناك أنظر في اللاشيء وأدركت أنني من الهالكين: لا علامات طريق / مسار، وبوز (مقدمة) الطائرة لا يجعلك ترى شيئا مما يراه الركاب، وعندما اقتربنا من المطار رددت الشهادتين وقرأت الفاتحة على روحي، ولما توقفت الطائرة انهلت على صديقي الكابتن بشتائم من العيار اللبناني!

jafabbas19@gmail.com

12/2/2014