كيف راح بيرلسكوني في خبر (كوني)؟

جعفر عباس

أول مرة أخالط فيها الطليان كان خلال رحلة جوية من لندن إلى القاهرة فالخرطوم في السبعينيات مروراً بروما، وأعجبني فيهم أنهم مثلنا يتكلمون بأصوات مرتفعة، ولا يعرفون الإتيكيت والبروتوكولات الاجتماعية الخانقة، فقد كانوا يتصرفون داخل الطائرة كأنهم في حديقة عامة، ثم تبدلت نظرتي إليهم بعد أن تابعت فضائح قادتهم السياسيين، ولعلكم تذكرون ما قاله رئيس الوزراء الإيطالي السابق سلفيو بيرلسكوني بما معناه: إن الإسلام لم يقدم أي حضارة، وإن المسلمين غير متحضرين، وهذا اتهام خطير وخاصة أن بيرلسكوني معروف كسياسي شريف ومفكر من الطراز الأول ورجل أعمال ثروته نظيفة لأنها مغسولة بوساطة أيد أمينة مثل أيدي المافيا التي لا تعمل إلا في مجالات نظيفة وشريفة مثل تجارة المخدرات وإدارة أوكار الدعارة والقمار، وبسبب هذا السجل المشرِّف، خضع بيرلسكوني للتحقيق القضائي في 87 بلاغاً فقط يتعلق بالفساد والرشوة واستغلال النفوذ والغش وإقامة علاقة جنسية مع فتاة قاصر، وما إلى ذلك من مخالفات بسيطة، ومنذ سنوات وهو يناضل في المحاكم بعد أن وجهت إليه تهمة تقديم رشوة إلى قضاة لمنع بيع شركة أغذية مملوكة للدولة لأحد منافسيه التجاريين، وصدرت ضده سلفاً أحكام بالسجن والغرامة، ثم كان أن (هزأته) زوجته علناً عندما نشرت إعلانا تطالبه فيه بالاعتذار لها علناً لكونه غازل فتيات أخريات أمام الملأ واضطر (المسكين) إلى نشر إعلان يطلب فيه العفو والسماح (بالمناسبة عنده زوجة تهبل وتصغره بنحو ثلاثين سنة!) وقبل أن تفتح فمك مندهشاً لأن رجلاً كهذا حكم بلداً أوروبياً عريقاً، لا بد من إيضاح أن الفساد والرشوة والتواطؤ مع المافيا لا تعد من الجرائم الخطيرة في إيطاليا، ربما لأن الطليان (يشربون) من البحر الأبيض المتوسط الذي تطل عليه العديد من الدول العربية التي يعتبر نهب الممتلكات العامة فيها (ولا شيء)، وبسبب الجينات السياسية العربية عند الطليان فإن شعبية بيرلسكوني كانت مرتفعة في إيطاليا رغم سجله الإجرامي الطويل!! ولكن بيرلسكوني ليس من الطير الذي يؤكل لحمه بسهولة، فالرجل هو الأكثر ثراءً في إيطاليا، وثالث أثرياء أوروبا، فهو يملك ثلاث محطات تلفزيونية، وناديا لكرة القدم والعديد من دور النشر، ولا تستطيع وأنت في إيطاليا مشاهدة تلفزيون، أو متابعة مباراة في كرة القدم، أو قراءة جريدة، أو شراء صلصة أو شريط فيديو، من دون أن تسهم في ملء خزائن بيرلسكوني، وإدانة رجل بهذه الإمكانات كان في حكم المستحيل، ولأن إدانته كانت شبه مؤكدة، فقد شرع أنصاره في فترة حكمه في تعديل القوانين الجنائية بحيث تسقط الجرائم التي يُتهم بها بالتقادم السريع، والتقادم في القانون هو انقضاء مدة معينة منذ ارتكاب جريمة لا يجوز بعدها تقديم المتهم إلى المحاكمة، ومن باب اللعب على المضمون تم تعديل قانون الحصانة ضد الملاحقة القضائية بحيث لا يجوز أبداً ملاحقة شاغلي أكبر خمسة مناصب دستورية وتنفيذية في إيطاليا، حتى بعد تركهم مناصبهم، ومن باب التحلية فإن هناك توجهاً لشمل كل نواب البرلمان الإيطالي بحصانة تتيح لهم ارتكاب ما يشاؤون من جرائم بلا خوف من المساءلة، وبهذا كان من المؤمل أن يطلع منها بيرلسكوني كالعجين من الفرن (مستوياً) وخاليا من البكتيريا وصالحاً للتداول، ليعيد بيرلسكوني أمجاد الحضارة الرومانية!، ولكن القضاء الإيطالي ما تزال فيه بقية من مروءة وأدان بيرلسكوني، ولعله يقول الآن إن قضاة إيطاليا ليسوا متحضرين مثل المسلمين تماماً!!

jafabbas19@gmail.com

16/1/2014