مهن ومحن (30)

جعفر عباس

كما أن الزواج ليس (مهنة) بالمعنى المتعارف عليه للكلمة، فإن طلب العلم ليس مهنة في نظر الكثيرين، لأن المهنة في الاعتقاد الشائع هي تلك التي يكسب منها الإنسان رزقه وقوته، ولكن أن تكون طالباً يعني أنك صاحب مهنة بدرجة أو بأخرى، لأن المهنة عبارة عن تكليفات ومهام قد تعود على الإنسان بعائد مادي وقتي أو لاحق، وقد لا تعود، وهناك أناس مهنتهم خدمة الآخرين بلا مقابل، ويا ما هناك خلق كثير نذروا أنفسهم ومواردهم لأعمال الخير والإغاثة، لا يرجون من بشر مكافأة أو حتى (شكراً)، وقد يرفض البعض وضع (طلب العلم) تحت بند المهن، باعتبار أن الطالب (عالة) على غيره، ومن يقولون بذلك هم من يحسبون أن الطالب يأخذ ولا يعطي، أو ليس مطالباً بأن يعطي، وولي الأمر الذي يعتبر البنت/الابن طالبة/طالب العلم عالة عليه وطفيلياً يعيش من عرق الآخرين، يعاني من خلل في غدد وهورمونات الأبوة/الأمومة.

طلب العلم فيه تكليفات ومهام لا بد من تأديتها، والفرق بينه وبين المهن التقليدية هو أن العائد والمكافأة على تأدية تلك المهام والتكليفات يكون مؤجلاً، ويكون بحسب درجة إتقان الأداء، وكل ذي عقل يعرف أن أعظم استثمار للوالدين يكون في تهيئة العيال للحياة بتسليحهم بالعلم والمعرفة والقدوة الحسنة والمهارات الاجتماعية والتوازن النفسي، والوالد الذي يفعل ذلك من دون منّ، أي من دون أن يعاير العيال بأنهم عالة (وصرفت عليكم دم قلبي) قد يصبح يوما ما (عالة) بمفهومه على العيال، ومعظم المجتمعات العربية تعاني من الفقر، فيكون تعويل الوالدين على تأهيل نسلهم بالعلم لـ(يشيلوا) أنفسهم أولا، ثم يشيلوا بقية أفراد العائلة.

هذه تجربة مررت بها شخصياً ومرّ بها الملايين في مختلف أنحاء العالم، فعندما نصحني أستاذي في الجامعة بمواصلة الدراسة فور نيل البكالوريوس للفوز بالماجستير، قلت له: شكراً على النصيحة التي (لا تلزمني)، فأهلي انتظروا أكثر من 17 سنة دخولي الحياة العملية لأشيل جزءاً من الحمل الملقى على عاتق أبي وشقيقي الأكبر، وحتى البكالوريوس (كثير على أمثالي)، وحمداً لله أنني صبرت حتى نلته، وسيكون سلاحي لاقتحام الحياة العملية.

وللأب الذي (ينقنق) لأنه يصرف دم قلبه على العيال أقول (ولا جميلتك)، لأن دمهم دمك شئت أم أبيت، ولا ينبغي أن تكون بحاجة إلى من يذكرك بذلك أو بكونهم أمانة في عنقك.

ولكن بالمقابل فإنني أريد للطالب أن يدرك أو يحس بأن ولي الأمر (يصرف عليه دم قلبه)، لأن هذا الإدراك هو ما يجعل الطالب يؤدي الواجبات الدراسية الموكلة إليه بحماس وحرص على التجويد والتفوق، ومن المحزن جداً أن أنظمتنا التربوية ليست بها مناهج ومقررات تحفيزية تغرس في الطالب الإحساس بالواجب تجاه العائلة والمجتمع ثم الوطن، ولهذا تجد كثيراً من الطلاب يتفننون في (الزوغان) من المدرسة والجامعة، لأن (الجو) في الكافتيريا أو (المول) أحلى من الجو الدراسي، وعندما يأتي يوم أن يكرم المرء أو يهان (الامتحان)، يحلَّها كذا (برشام)، ومن يمارس (البرشمة) في الحياة المدرسية، يترك مقاعد الدراسة ومخه (مبرشم) أي متربس أي مغلق، ويتعرض (للبرشمة) التي هي البهدلة في الحياة العملية، هذا إذا حصل أصلاً على عمل، ولكن لو أدرك طالب العلم أنه يكافئ والديه ويرد لهم الجميل بحسن الأداء والتفوق، فإنه لن يستهتر بدروسه أو يستخف بمعلميه، ويجعل (الصياعة) و(الصرمحة) أولوية في حياته اليومية.

jafabbas19@gmail.com

22/2/2014