مهن ومحن (32)
جعفر عباس
أقول للمرة الـ(345) بعد الألف إن أهم وأمتع محطة في حياتي المهنية كانت التدريس، ففي تلك المهنة تذوقت حلاوة أن تعطي، ومعظم المعلمين يعطون أكثر مما يأخذون من مقابل مادي، فالمدرس لا يحسبها بطريقة: راتبي كذا ألف، وأدرس كذا حصة ومضي كذا ساعة أسبوعياً في التحضير والتصحيح / التصليح. يعني الساعة تطلع معي بـ... كذا فلس / مليم / درهم... يعني بحساب الساعات فالفرَّاش المكلف بالكنس والنظافة في المدرسة يتقاضى راتباً أعلى من راتبي، فلو كان المعلم يحسب أجره نظير التدريس بتلك الطريقة لألقى بعلبة الطباشير في وجوه الطلاب و(خرج ولم يعد حتى الآن، وأوصافه: وجهه يلعن قفاه، وعلى من يتعرف عليه إبلاغ وزارة التربية أو أقرب مركز شرطة)، فمعلوم لدى الخاصة والكافة أن المدرس لا يلقى مكافأة مالية تعادل أو تقابل ولو 50% من الجهد الذي يبذله، وبالمناسبة حتى أساتذة الجامعات ومهما تسلحوا بالدكتوراه والبرفسوراه يتقاضون رواتب أقل من تلك التي يتلقاها رصفاءهم الذين يحملون نفس المؤهلات واختاروا مهنا أخرى، وعادي جدا أن يتقاضى أستاذ هندسة المعمار راتبا أقل من ذلك الذي يتقاضاه أحد طلابه بعد دخوله الحياة العملية بخمس سنوات وكل (حيلته) بكالوريوس.
لا أود الخوض مجدداً في أمر مهنة التدريس في هذه السلسة، ولكن وكما تكلمت بالأمس عن أن على طالب العلم أن يدرك أنه يرد الجميل ويكافئ أهله بتفوقه وحماسه للدراسة، فإن عليه أن يتعامل مع المعلم ليس كشخص مكلف من قبل طرف ثالث بتعليمة نظير أجر معلوم، ولكن كـ(والد بالوكالة)، يتمنى ويريد له النجاح والصلاح والفلاح، ويظلم كثير من الطلاب المدرس المتشدد في أمور الانضباط السلوكي والأكاديمي، ويعتبرونه ديكتاتوراً، ويحبون أكثر المدرس (السبهلل) أي الروبوت الأوتوماتيكي الذي يدخل حجرة الدراسة ويقوم بتشغيل شريطه الدماغي بالمادة المحددة، ولا يعنيه ما إذا تحولت الحجرة إلى (ديسكو) عندما يقوم طالب أو أكثر باستخدام طاولته كطبلة، أو يعبث مجموعة من الطلاب بهواتفهم النقالة و(يفقعوها) ضحكات إذا تلقى أحدهم طرفة عبر الرسائل أو الـ(واتساب) الذي (واتسب) حياتنا وجعلنا ننصرف حتى عن السيد (غوغل) الذي مازال على استعداد لتقديم خدمات استشارية لنا بلا مقابل، فـ(غوغل) مثل المدرس ومثل الشيبة / الشايب الذي هو الوالد، لا يتحلى بنفس خفة الدم التي يتحلى بها الـ(واتساب) (خلال تقديمه لأحد برامجه التلفزيونية الشيقة تلقى الشيخ السعودي عبد الله المطلق سؤالاً من شاب يتعلق عن علاقته بأبيه، وظل الشاب يشير إلى والده بكلمة (الشايب) والمطلق يقول له: من فضلك قل الوالد.. ولما كرر الشاب كلمة الشايب عدة مرات صاح فيه المطلق: لا تقول الشايب.. شابت رموشك).
هل تذكر عزيزي الطالب الحديث النبوي الشريف الذي ينهانا عن سب أهلنا بأن نسب الآخرين فيسبون آباءنا وأمهاتنا؟ إذا لم تطلع على هذا الحديث فهأنذا أبلغتك فحواه وخلاصته، وعليك أن تقيس عليه أثناء وجودك في حرم المكان الذي تتلقى فيه الدراسة فلا يصدر عنك سلوك يجعلك من مستحقي أوصاف من شاكلة غبي، حمار، قليل أدب، صعلوك، لأنه لو أضفى عليك هذا اللقب مدرس فاض به الكيل (وليس مدرس لسانه فالت بطبعه) فإنه يعني أن الغباء والحمورية وراثية في عائلتك وأن أهلك لم يحسنوا تأديبك فصرت سيء الأدب وصائعاً، وتذكر أن من أجمل العبارات التي تأتي على ألسن المعلمين (وأحياناً يكتبونها في دفاتر من يستحقها من طلاب): بارك الله فيك وفي والديك.
jafabbas19@gmail.com
23/2/2014