مِهن ومِحن (7)

جعفر عباس

كثيرا ما تسمع كلاما من شاكلة التدريس/الطب مهنة (مقدسة)، فهل يعني ذلك أن الهندسة أو المحاسبة أو السباكة أو حتى تنظيف الـ(مانهولات) مهن (نجسة)؟ كل مهنة نظيفة وشريفة تستحق التقدير، والميل لإضفاء القدسية على التدريس والطب منشؤه أنهما مهنتان ضروريتان وحيويتان لكل بيت وكل فرد، والطبيب والمدرس مطالبان بأن يكونا على قدر عال من الخلق والأمانة والمسؤولية، ورغم أن التعليم/التدريس هو الذي ينجب الأطباء، إلا أن الأطباء أعلى شأناً من المدرسين من الناحيتين المادية والاجتماعية، وعموما فإن قطاع المعلمين أكثر شرائح الموظفين تعرضاً للظلم والغبن، وربما مرد ذلك أن الإنسان حتى لو خاب في المدرسة، فإن ذلك لن يمنعه من مواصلة الحياة والعيش، بل إن ترك الدراسة في بعض الأحيان يعود بمكاسب مادية أعلى من نيل الشهادات العليا: تركت المدرسة وعمرك 16 سنة لأنك ماهر في كرة القدم؟ ستصبح غنياً ومشهوراً ويسعى كبار الأطباء الاستشاريين لمصادقتك والتقاط صور معك (ولكن فاول/لعبة خشنة تتعرض لها قد تكون نهاية مسيرتك وتحاول الالتحاق بفصول الدراسة المسائية وتكتشف أن مخك قد تكلّس ولم يعد قادرا على الاستيعاب). هجرت المدرسة وأصبحت سمسار سيارات أو عقارات، وهي مهنة لا تتطلب أي رأسمال نقدي؟ قد تصبح من علية القوم وتتزوج بواحدة حاصلة على ماجستير في الفيزياء النووية وتطلب منها أن تتفرغ للطبخ والكنس وإدارة شؤون البيت (لأني مو مقصر في حقك وكل اللي تشتهينه يجيكي قبل لا تطلبيه.. وش تبين بعد؟ خلِّك من الدوام وعوار الرأس وراتبك في شهر أنا أكسبه في يوم واحد وحلالي كله تحت تصرفك).

ولكن علاقة الناس بالطبيب ذات طبيعة مختلفة، لأنهم يتعاملون معه في أمور تتعلق في أحيان كثيرة بالحياة والموت، ولهذا ففي كثير من المجتمعات تجد أن الطبيب هو الأعلى شأناً ومكانة بين المهنيين كافة، وفي المجتمعات العربية لا يحاسب الناس الطبيب حتى لو أخطأ خطأ فادحاً عن تقصير وإهمال، بينما لا ينتهي عام دراسي من دون أن يتعرض آلاف المدرسين للشتائم لأن – مثلاً – الولد رسب في الامتحان، فكثير من أولياء الأمور لا يحملون عيالهم مسؤولية الرسوب، بل يلقون اللوم على المعلمين، وأحياناً تصل بهم (البجاحة) إلى حد القول: لو أعطيتوه 37 درجة كان نجح!! وتحضرني هنا حكاية تلميذ سوداني، كان يتلقى التعليم في مدرسة تابعة للبعثة التعليمية المصرية في الخرطوم، ورسب عدة مرات وظل في الصف الثاني ثلاث سنوات، وذات يوم جاء أبوه إلى المدرسة وانهال على مديرها ضرباً وهو يصيح بما معناه: أنتم علمتم القرد يعمل الهوايل.. مش قادرين تعلموا ولدي القراءة والكتابة؟

ولكن حتى لو قلنا (ماشي) لحكاية أن الطب أو التدريس مهنة مقدسة، فإنني أقول (كانت مقدسة)، لأن الاعتبارات التجارية دخلت ذينك الميدانين، فصار هناك المدرس والطبيب الذي يتعامل مع الناس بحساب العائد المالي، وما دخلت حسابات الربح والخسارة مهنة إلا وقام حجاب بين من يمارسونها والجمهور بصفة عامة، فما بالك إذا كانت تلك المهنة ذات صلة بمصير الإنسان ومسيرته في الحياة لكسب القوت أو العافية؟

مرة أخرى أؤكد أن تعميم الأحكام فيه إجحاف بحق من يمارسون أي مهنة طبّاً كان أو تدريساً أو هندسة، لأن في كل مهنة نعاج سود، و- بحمد الله - هناك غالبية ذات خلق وضمير، تضع مصلحة الإنسان فوق الكسب المادي الشخصي، فكم من مدرس يخصص وقت فراغه لمساعدة تلميذ على فهم أمر ما بلا مقابل، وكم من طبيب يقدم العلاج مجاناً للمحتاجين ويعطيهم عينات أدوية مجانية.. ولي عودة لهذا الأمر غدا إن شاء الكريم.

jafabbas19@gmail.com

24/1/2014