مهن ومحن (33)

جعفر عباس

عندما كنا صغاراً، كان أهلنا يخيفوننا كلما مارسنا الشغب والشقاوة والعفرتة، بأنهم سـ(ينادون) البوليس/الشرطة، أو يأخذوننا إلى الحكيم، وكان البوليس في نظر أهلنا هو ممثل الحكومة، وكانت الحكومة كائناً هلامياً لا يعرف أحد بالتحديد ملامحه ومكان إقامته، ولكننا كنا على يقين من أنه شرس وباطش ولا خير يرجى منه.

وتعززت تلك الصورة لأن منطقتنا لم تكن بحاجة إلى بوليس، فلم تكن هناك جرائم وكان العمدة يتولى البت في المنازعات والمشاجرات، وبالتالي كنا نسمع عن البوليس من حكاوي أهلنا الذين يعملون في المدن الكبيرة، وسمعنا منهم للمرة الأولى مفردات مثل (الحراسة والزنزانة)، وأذكر أن ممثلنا في البرلمان وقف ذات عام وطالب بإغلاق السجن الوحيد في منطقة وكان في مدينة دنقلا، لأن به طاقم حراسة من 12 جندياً وضابطاً يتقاضون رواتب لا يستحقونها، لأن (السجن) ظل خاوياً تماماً لست سنوات متتالية، ولم يكن للحكومة أي (جميل) علينا، وكان كل ما نعرفه عن البوليس أنهم يسجنون الناس، وكان هناك مثل شائع في السودان (لو صباعك / إصبعك بوليس، اقطعه).

أما الحكيم فكان الاسم الذي يطلق على الطبيب، وكان ببلدتنا (جزيرة بدين)، كما في كل القرى الكبيرة والمدن الصغيرة، مركز صحي (كحيان) يحمل اسم شفخانة (كلمة تركية تعني مكان الشفاء)، يقوم بمعاينة المرضى فيه ما كان يسمى بمساعد حكيم، وهو عادة الممرض النابه الذي قضى في الخدمة سنوات طويلة، واكتسب خبرة في معالجة الأمراض التي لا تتطلب التدخل الجراحي، وحتى بعد أن تكاثر الأطباء حملة الشهادات الجامعية، كنت ضمن غالبية من الناس تثق في مساعد الحكيم أكثر من ثقتها بالطبيب الشاب، لأننا وبالتجربة والتعامل الطويل مع (مساعدي الحكماء)، أدركنا أن منهم من يملك القدرة على تشخيص الأمراض المستعصية، من دون الحاجة إلى فحوصات مختبرية أو صور إشعاعية، وشخصياً لم أتعامل وأنا مريض مع طبيب يحمل شهادة جامعية إلا بعد أن تجاوزت الخامسة عشرة، لسبب بسيط، وهو أنه لم يكن هناك طبيب على بعد مائة كيلومتر في الاتجاهات الأربعة من بلدتنا، وكان خوفنا من الدكتور/الحكيم ينبع من أن الأدوية التي كانت متاحة في عهد طفولتنا وصبانا كانت – فيما أعتقد – مستخلصة من نبات الصبار، فقد كان كل صنف منها (أزفت) من غيره، وعلى كل فقد كانت هناك نحو سبع أصناف فقط من الأدوية السائلة في كل شفخانة، وكانت جميعها شديدة المرارة وكريهة الرائحة، ثم ظهرت الحقنة / الإبرة، وكانت تعطى في أعلى الذراع أو الردف، وكانت حقن ذلك الزمان غليظة الرأس، وتحدث في الجسم ثقباً تستطيع تمرير خيط دوبارة من خلاله.

وتطور الطب وتطورنا، أو حسبنا أننا تطورنا، وقمنا بتطبيع العلاقات مع الأطباء، وبقي سوء الظن بالشرطة، فحتى بعد أن كبرنا كنا نعرف أن الزعم بأن الشرطة في خدمة الشعب مجرد (خرطي)، لأنها كانت في خدمة الحكومة و(بس)، فقد كان هناك ما يعرف بالبوليس السري، وهم من يرتدون الملابس المدنية و(يشمشمون) هنا وهناك بحثاً عن "المخربين أعداء الوطن والوحدة الوطنية"، ولم تكن معظم الدول العربية تعرف أجهزة الأمن والمخابرات المستقلة عن جهاز الشرطة، ومن ثم كانت الشرطة مكلفة بمحاربة الجرائم العادية وملاحقة معارضي الحكومة، وبمرور الزمن وبمخالطة شرطيين من مختلف الرتب، تغيرت نظرتي لهم، واكتشفت أنهم أناس عاديون مثلي مثلك، وليسوا شريرين يترصدون بالناس لـ(يخمشوهم ويكمشوهم)، بل إن مهمتهم الأساسية هي حمايتنا من الشريرين.

jafabbas19@gmail.com

24/2/2014