مِهن ومِحن (8)

جعفر عباس

استنكرت إضفاء القداسة على مهنتي الطب والتدريس، ليس تقليلاً من شأن المهنتين، ولكن لأن كل مهنة شريفة ونظيفة تستحق الاحترام (وليس التقديس)، ولأنني أعرف كما يعرف غيري محنة كلا المهنتين، إذا مارسهما مَن لا يحترم الأخلاقيات المعيارية التي تحكم الأداء في كل منهما، فمهنة التدريس مثلاً تعامَل باستخفاف حتى من قِبل القائمين على شأن التعليم، فتجد أن اختيار المعلم يقوم على أسس أقل ما يمكن أن توصف به أنها عشوائية، لأن التدريس مهنة (ملاذ أخير)، لمن يدخلون سوق العمل، فمعظم أصحاب المؤهلات قد يقضون سنوات طويلة متبطلين عن العمل في مسعاهم وأحلامهم بالعثور على مهن (محترمة) عائدها المالي مرتفع وشاغلها يحظى بمكانة اجتماعية بدرجة أو بأخرى، ويلجأ كثيرون للتدريس عندما يجدون الباب تلو الباب يغلق في وجوههم، وفي معظم البلدان يشكل المعلمون أغلبية موظفي الدولة، ولا ينازعهم على هذا الوضع إلا العاملون في القوات المسلحة، في الدول ذات النزعات الحربية العدوانية (مثل الولايات المتحدة والصين)، والدول التي تشهد اضطرابات وتنظيمات معارضة مسلحة (مثل السودان وكولمبيا)، وفي العالم العربي تستطيع أن تذهب إلى وزارة التربية مسلحا ببكالوريوس في الكيمياء، ويعرضون عليك أن تعمل مدرساً للرياضيات أو اللغة الإنجليزية، وأستطيع أن أجزم بأن أكثر من 80% من العاملين في مجال التدريس في العالم العربي، لم يتلقوا أي تدريب في هذا المجال، فكل ما هو مطلوب منهم هو أن ينبطحوا على نصوص المنهج ويحشوا به عقول الطلاب.

ومعلوم أن المعلمين هم أقل قطاعات الموظفين المدنيين رواتب وامتيازات، يعني لسان حالهم (رضينا بالهم والهم مو راضي بنا)، ومن ثم جاءت ظاهرة المدرس التاكسي، فسيارة الأجرة هي وسيلة من لا يملك أداة تنقل، ويستطيع القادر على الدفع استخدامها ودفع الأجرة المطلوبة، والمدرس التاكسي سيم سيم، يوقفه – مثلاً - ولي أمر: نريد منك أن تأخذ ولدنا في مشوار أكاديمي لساعة واحدة يومياً، وبعد (المفاصلة) يتم الاتفاق على سعر المشوار، وشيئاً فشيئاً يصبح لهذا النوع من المدرسين زبائن محددون ومعروفون، وقد يكون محظوظاً بالحصول على بقشيش إضافي في نهاية المشوار إذا كان أداء (ولدنا) في الامتحانات طيباً، وقد يحصل على شتائم أو ربما (بوكس) إذا كان عقل (ولدنا) مصفحاً أو كان المدرس نفسه قليل العدة والعتاد وعينه فقط على (العدّاد)، وأعرف مدرسين متمكنين من المواد التي يدرسونها وكسب الواحد منهم سمعة طيبة بين أولياء الأمور، فاحترف الدروس الخصوصية لأنها تجعله سيد وقته، وعائدها أفضل، ولا جرس ولا مدير ولا وزير.. يرتاح خلال النهار وبحلول العصر يبدأ المشوار تلو المشوار، وبالمقابل أعرف الكثير من أولياء الأمور الذين أتوا بمدرسين خصوصيين لعيالهم واتضح لهم أنهم من فئة تعمل بنفس طريقة عامل محطة البترول: يعبئ (التانك) على قد فلوسك، وتفوت أنت ويأتي غيرك.

من الأمور المزعجة والمقلقة أن الدروس الخصوصية، صارت في معظم الدول العربية، ضرورة مع اضمحلال دور المدرسة في العملية التعليمية بسبب هزال وركاكة المناهج، أو ضعف تأهيل المعلمين، ولا سبيل لعلاج مَواطن الخلل هنا إلا بالتدقيق في اختيار المعلمين، وجعل التدريس مهنة جاذبة من حيث الراتب والمزايا ثم إشراك المعلمين في إعداد المناهج، وعندها سيختفي المدرس التاكسي ويحل محله المدرس الصاروخ الذي يحلق بتلاميذه في العلالي.

jafabbas19@gmail.com

25/1/2014