مهن ومحن (35)

جعفر عباس

وقفت مع مهنة الشرطة يومين متتاليين، واليوم أتعرض لمهنة لا أعرف عنها الكثير، وهي مهمة الجندية في القوات المسلحة، وسر جهلي وغيري بمعظم جوانب تلك المهنة هي أن العاملين فيها ممنوعون من الثرثرة والتحدث عن طبيعة أعمالهم، وأنها مهنة فيها تخصصات كثيرة وشائكة: مدرعات ومشاة وإشارة وطيران ودفاع جوي ومدفعية واستخبارات وبحرية وبرمائية (سبحان الله فلسنوات طويلة ظلت المدارس تغرس في رؤوسنا أن الكائن البرمائي الأشهر هو السلحفاة، ثم عشنا وشفنا مركبات تسير على اليابسة ثم تطفو على الماء، وأغرب تلك المركبات، الدبابات المخيفة التي عندها تل الرمال وحوض الماء سيم سيم). طبعاً كسوداني أعرف أن مهمة العاملين في القوات المسلحة، تتجاوز حدود الدفاع عن الوطن لتصبح الدفاع عن الحكومة. وهذا أمر قد يحدث في بلدان كثيرة بمبررات قد تكون مقبولة في ظروف تتطلب تدخل الجيوش لحماية النظام الحاكم أو الأمن الداخلي من هزات عنيفة، وأعرف أن هناك من يدخل الخدمة العسكرية بهدف قلب نظام الحكم ليصبح هو الحاكم المطلق، ومن هؤلاء من ينجح ويجلس على كرسي وثير ومنهم من يخفق ويتدلى من حبل سميك غليظ.

ولو أعطاني الوليد بن طلال نصف ثروته، وزوجني من (بيونسيه) و(جنيفر لوبيز) في ليلة واحدة (لتحسين النسل. ولاحظوا أن الأولى سوداء وأن الثانية سمراء لأنها من أصول لاتينية.. يعني لم أرشح بيضاء حتى كزوجة افتراضية)، المهم لو فعل كل ذلك نظير أن التحق بالقوات المسلحة في سويسرا، لقلت له: أنا أعطيك نصف ثروتي، بس اسحب هذا العرض / الاقتراح، (وبالمناسبة فسويسرا ليست لديها قوات مسلحة / جيش)، وليس مرد ذلك كرهي لسلك القوات المسلحة، بل معرفتي بقدر نفسي، لأنني من جماعة (أنا بخاف م الأرنب يطلع لي أسد)، بمعنى أنني أخاف من حمل السلاح، فما بالك إذا صرت مطالباً بمقارعة من يحملون السلاح؟ بعبارة أخرى فإنني أعتبر من يلتحقون بالقوات المسلحة، وهم يعرفون سلفاً طبيعة مهامها، وأن الحكاية فيها يا قاتل يا مقتول، هم (أرجل) الناس. نعم هناك مدنيون يتحلون بقدر عال من الجسارة والشجاعة، وقد أثبتت الثورات العربية منذ عام 2011، أن في كل مدينة عربية مئات الآلاف وربما الملايين الذين لا يهربون من أمام جنود الطواغيت وهم يفتحون عليهم النيران، ولكن المدني الجسور والفدائي، قد لا يواجه موقفاً يثبت فيه تحليه بتلك الخصال طوال حياته، أو قد يواجهه مرة أو مرتين، بينما الجندي يعرف أن مهنته هي حمل السلاح ومواجهة حاملي السلاح، وما من بلد في العالم إلا ويمر فيه العاملون بالقوات المسلحة بمواقف تتطلب مواجهة الموت، ولو مرة واحدة خلال سنوات الخدمة العسكرية، فقد تكون جندياً في بلد بلا أعداء ولا يتعرض لمخاطر الغزو، ولكن هناك الوفيات التي تحصل بين الجند خلال التدريبات العسكرية بالذخيرة الحية وهي أمر لا مفر منه في مثل تلك الفعاليات.

والتدريب العسكري حتى بدون ذخيرة، أمر مرهق وقد مارسته عندما كان إجبارياً في المرحلة الثانوية على أيامنا: طوابير وزحف على الأرض، والجري لمسافات طويلة حاملا السلاح، ويحكى أن جنوداً كانوا على إحدى جبهات القتال في حدود بلادهم، وأتوا لهم بالطعام وكان عدساً، وعجزوا عن أكله لأنه كان مخلوطاً بالتراب فلما تذمروا قال لهم القائد: بلاش دلع أنتم هنا لحماية تراب الوطن، فقال له جندي: مزبوط يا حضرة الضابط واجبنا الدفاع عن تراب الوطن وليس أكله.

jafabbas19@gmail.com

26/2/2014