مِهن ومحن (9 + 10)

جعفر عباس

أكبر مؤشر على تردي الأوضاع في وطني (السودان)، هو أن شرائح واسعة من المواطنين باتت تسيء الظن بالأطباء، وحتى عهد قريب كان حلم كل فتاة أن تتزوج بطبيب، وحلم كل أب أن يصبح عياله أطباء، لأن الأطباء كانوا يتمتعون بأوضاع مالية واجتماعية عالية كانت تغنيهم عن اللجوء إلى الحيل التجارية لاستنزاف مرضاهم، وحال الطب والأطباء الراهن في السودان، يمثل بالنسبة لي (مأساة شخصية)، فقد عشت أكثر من نصف سنوات عمري خارج السودان وبالتحديد في منطقة الخليج (كثيرا ما أقف أمام شاب قطري في موقع مسؤولية لقضاء أمر ما، وفور شروعه في توجيه الأسئلة الروتينية إليّ، أفحمه وأسكته بالقول: أنا عشت في قطر أكثر منك.. بل عشت فيها أكثر من نصف سكانها الأصليين - أخذاً في الاعتبار أن شريحة الشباب في قطر تمثل أكثر من نصف السكان).  

المهم أن حلم العودة الى السودان نهائيا ظل يراودني طوال عدة سنوات، ومن البديهي أن كل إنسان يحس بالطمأنينة في بلده حيث أهله وأقاربه وأصدقائه من الجيران وزملاء الدراسة والعمل، وقد ساءت علاقتي بعيالي في السنوات الأخيرة لأنني أرفض قضاء إجازتي السنوية في أي مكان غير السودان، ولكن وكلما قضيت في وطني فترة قصرت أم طالت من الزمان، كلما ضعفت عندي الرغبة في العودة النهائية إليه. فكلفة المعيشة في السودان أعلى من كلفتها في أبو ظبي، والطقس قطعة من جهنم لعشرة أشهر في السنة، ومرافق الخدمات العامة منهارة أو اختفت، ولكن أمر كل ذلك هين، فما زال عشرات الملايين يعيشون في ظل تلك الظروف ويتآنسون ويتناسلون ويضحكون، ولكن ما يخيفني هو أنني ابن آدم وبالتالي معرّض لابتلاء المرض، ولا يعرف التاريخ إنسانا عاش ثلاث سنوات من دون أن يعاني من المرض، وما شاهدته وسمعته من تردٍ مريع في الخدمات الطبية في بلادي، هو الذي يجعلني أصرف النظر عن فكرة العودة إليه (نهائياً)، والتردي في تلك الخدمات لا يُعزى فقط لانعدام مُدخلات العلاج، بل في أن شريحة كبيرة من الأطباء صارت تتاجر بخبراتها ومؤهلاتها، فالمستشفيات الحكومية لا يغشاها إلا شخص بعقلية (بايظة بايظة)، لأنه لا يملك المال للاستفادة من الطب التجاري، والعيادات والمستشفيات الخاصة صارت تستعين بأطباء بسعر التكلفة، بمعنى أنها تتفادى قدر المستطاع توظيف الأطباء المهرة لأنهم يطالبون بأجور عالية، فلا يبقى أمام الطبيب الحاذق إلا أن يفتح عيادة خاصة، وبما أن هذا النوع من العيادات صار تجارة رابحة، فقد دخله أناس لا علاقة لهم بالطب، وقبل أسابيع تم إغلاق أربع مجمعات طبية يعالج الناس فيها سباكون وباعة خضراوات وشاورما، وصينيون يأتون بأدوية من وراء ظهر السلطات الصيدلانية ويكتبون الوصفات باللغة الصينية لصيادلة صينيين، ويصرف المريض أدوية وهو لا يعرف حتى (تاريخ انتهاء صلاحيتها) أو مكوناتها.

أطلت الحديث عن الطب والأطباء في السودان لأنه وطني ولأنني أعرف شعابه وأهله، ولكنني أعرف أن حال الطب التجاري في كثير من بلدان "العالم الثالث" - ومعظم الدول العربية من هذه الفئة - لا يبعث على الطمأنينة، ولأنني عجنت وخبزت منطقة الخليج فقد ذقت فيها المر من أطباء (الشنطة)، وصرت بعكس معظم الناس أثق بالمستشفيات الحكومية في المنطقة أضعاف ثقتي بالعيادات والمستشفيات الخاصة، وسأحاول أن أشرح لكم (لماذا).

(10)

(شِلت حال) الطب والأطباء في السودان أعلاه، (أن تشيل حال شخص ما هو أن تفضحه أو تذكره بما لا يشتهي أن يُقال عنه) وختمت ذلك المقال بأن منطقة الخليج أيضا صارت تعرف (تسليع) المرض والعلاج، أي تحويل الخدمات الطبية العلاجية إلى سلعة مقابل رسوم مالية باهظة في معظم الأحيان، والقوانين في كل بلدان العالم التي تضع ضوابط صارمة لمهنة الطب تمنع (الدعاية والإعلان) عن الخدمات الطبية والعقاقير الطبية.. عندنا في السودان يستطيع طبيب حديث التخرج في الجامعة أن يفتتح عيادة وينشر إعلاناً في الصحف والتلفزيون بأنه متخصص في الاستنساخ وتحضير الأرواح وعلاج العقم وعسر الهضم، بل إن باعة الأعلاف ينشرون إعلانات بأن لديهم وصفات عشبية لعلاج السرطان (وكأنما هناك مرض واحد معين اسمه السرطان) والإمساك والإسهال وخشونة الركبة وخلل الشبكية والربو والتهاب المسالك البولية، و- سبحان الله - جميعهم قادرون على شحن الرجال بالفحولة بنفس طريقة الهاتف الموبايل بالدفع المُقدّم.

وفي السنوات الأخيرة صار من المألوف أن تطالع في صحف الخليج إعلانات يزعم فيها هذا المستشفى أو ذاك أنه يعالج كذا وكذا وينشر صور أطبائه (بصراحة صور أطباء القطاع الخاص تشرح النفس، بينما كثيرون من أطباء المستشفيات الحكومية متجهمون، لأن القاعدة هي أن يكون الموظف العمومي متجهما في وجه الجمهور)، وتطالع تلك الإعلانات فتخرج بانطباع أن أكبر علة يعاني منها من يعيشون في منطقة الخليج من الرجال والنساء هي الكروش، فلا يكاد يوم يمر من دون أن تزعم جهة طبية خاصة عن تقنيات جديدة لشفط الدهون وتدبيس المعدة، أما المستهدف الأول بتلك الإعلانات فهم النساء، ففي زمن صار فيه من المألوف أن تظهر على شاشات التلفزيون سيدات ليقلن لنا إنهن يشعرن بالسعادة لاستخدامهن البامبرز الخاص بالدورة الشهرية، صار سهلاً الحديث عن نهود وأرداف وشفاه النساء (تكبيراً وتصغيراً) (بالمناسبة لا أعرف كيف يتم جعل الشفاه رقيقة!! سميكة وممتلئة؟ ممكن بالبوتوكس او بـ(بوكس) على الوجه، ولكن ترقيقها وجعلها رفيعة؟ بالمشرط؟ هل تقبل عاقلة أن يقتطع جراح ثلث أو ربع شفتها بالسكين ويرميه في الزبالة؟ يااااه).

وما هو أخطر من ذلك هو أن المستشفيات الخاصة في منطقة الخليج صارت تتعمد إشانة سمعة الرجال بالحديث المتكرر عن قدراتها في رفع مؤهلات الرجال الفحولية، فالإعلانات المتكررة عن ذلك الموضوع تعطي الانطباع بأن هناك حالات (عجز) وبائية في المنطقة. أذكر كيف أنه عندما كنت عضواً في هيئة التحرير لقناة "الجزيرة" الإخبارية العربية، عرض علينا مدير عام القناة إعلاناً تقدمت به شركة عالمية تنتج عقاراً للتحفيز الجنسي معترف به عالمياً، ورفضت الهيئة الإعلان بالإجماع لما به من إيماءات وإيحاءات تتناول علاقة الفراش بين الجنسين، ولكن المستشفيات الخاصة لديها منطق يقول: لا حياء في الطب.. وتلك مصيبة.. أن يكون تركيز الطب على أمور تقع تحت بند (قلة الحياء)، كارثة.. نعم لا حياء في الطب في أن يعالج رجل امرأة أو العكس، لا حياء في أن يخاطبنا الأطباء عبر وسائل الإعلام عن الحمل والولادة والعادة الشهرية والسرية والعلنية لتنويرنا وتثقيفنا صحياً، ولكن أن تصبح شاشات التلفزة وأوراق الصحف منابر للحديث عن العلاقات الحميمة، وكمان كلها فيها تشكيك في كفاءة الرجال، عيب.. ما يصير، ولا يصح.. ولكن العيب الأكبر هو أن الترويج الإعلامي للخدمات الطبية، ولو كان ذلك الترويج لا يتنافى وأخلاق مهنة الطب لكانت المستشفيات العامة أول من لجأ إليها لأنها تقدم خدماتها خدمة للمواطن بلا مقابل.. حتى ولا شكراً.

jafabbas19@gmail.com

27/1/2014