مِهن ومِحن (11)
جعفر عباس
ما من مهنة، إلا وصاحبها (ممتحَن)، أي عُرضة لمحنة من نوع أو آخر، والمحنة ليست بالضرورة كارثة أو مصيبة، بل قد تكون موقفاً أو وضعاً أو تجربة تستوجب إعمال الفكر والبحث عن حلول ومخارج، ويواجه المعلمون محناً كثيرة من بينها الوزارة وتلاميذهم وأولياء الأمور، فوزارات التربية في العالم العربي تنقل المعلم من هذه المدرسة إلى تلك دون تقدير لظروفه التي قد تكون خاصة بل وحرجة، فكشوف تنقلات المدرسين يتم إعدادها باستخدام جداول اللوغريتمات، بمعنى أن المدرس يكون مجرد رقم، وقد يتم نقله إلى مدرسة تبعد عن مكان سكناه بمائة أو ألف كيلو. وأكثر فئات العاملين في حقل التدريس معاناة هن المعلمات، فبجرّة قلم تحوّل الوزارة زواج معلمة كامل العناصر الشرعية إلى زواج مسيار (غير شرعي)، ففي زواج المسيار، فإن حق السير والطفشان مكفول للزوج، يذهب ويغور في أي داهية يختارها ولأي مدة يراها، ولكن عندما تنقل وزارة التربية معلمة إلى بلد غير البلد الذي يقيم فيها الزوج (والعيال) تكون هي من (يسير) ويترك بيت الزوجية وتصبح العلاقة الزوجية (ترانزيت)، فيلتقي الزوجان في العطلة الأسبوعية، وفي الدول ذات المساحات الشاسعة يلتقيان في إجازات نهاية كل فترة دراسية.
وخلال فترة
عملي في مجال التدريس كان من أثقل الأشياء على قلبي مسح السبورة، فبنهاية كل حصة
دراسية كنت أخرج من غرفة الدراسة وملابسي ووجهي ويداي وفتحتي أنفي توحي بأنني أعمل
في طاحونة، فغبار الطباشير يتطاير مع كل حركة لمسح السبورة، والتلوث الناجم عنه لا
يقل خطراً عما يسببه التدخين، وتغلق المدرسة أبوابها في نهاية الفصل أو العام
الدراسي، و(يفرنقع) الطلاب ويبقى المدرس لعدة أيام في تصحيح / تصليح أوراق
الامتحانات: هذا طالب يستخدم اللغة الهيروغليفية، وذاك أتى بإجابة واحدة صحيحة
لسؤال تتكون إجابته الكاملة من ثلاثة عناصر خُصِّصَت له خمس درجات.
تخيل حال مدرس مثلي لا يعرف حتى كيف يوزع راتبه ليفي بالتزاماته المالية (ديون البقالة وإيجار المسكن ومصاريف الوالدة) بسبب ضعف وراثي في مادة الرياضيات: ماذا أفعل مع ذلك الطالب وكم يساوي ثُلث الخمسة أو 5/3؟ ولأن تصحيح الأوراق يكون غالباً في البيت فلا مجال للاستعانة بصديق، وليس من الوارد أن أسأل: يا أمي ثلث الخمسة كم؟ الحل هو أن أكون كريماً مع الطالب وأعطيه درجتان. وبعد كل ذلك يأتي دور جمع الدرجات لكل ورقة، وكان ذلك في زمان لم نكن قد سمعنا فيه باختراع الآلة الحاسبة، ولو علمت بأمرها لاشتريت واحدة ولو كلفتني رواتب 4 أشهر، ولكنني وفي مرحلة جمع الدرجات لكل ورقة كنت أستعين بمن حولي: هذا يجمع الدرجات فأعرض الورق على شخص آخر ليراجعها ويتأكد من صحة المجموع، وهناك أمر لم يكن بمقدور وزير التربية أو رئيس الجمهورية أو مدير (اليونسكو) أو الـ(سي آي أي)، إرغامي على القيام به، وهو إعداد النتائج النهائية لأن ذلك يتطلب جمع ما أحرزه كل طالب من مجموع نحو خمسين طالباً في نحو عشر مواد، فلو قمت بتلك المهمة لكانت النتيجة واحداً من أمرين: جميع الطلاب عباقرة أو جميعهم ينبغي أن يكونوا في الشارع يبيعون الصحف والسجائر.
والمهم أن تصحيح الأوراق وإعداد النتائج عبء ضخم ومسؤولية جسيمة على كل مدرس، ولابد من الدقة تحرياً للإنصاف، وهكذا فحتى الطالب الذي يستخدم اللغة الهيروغليفية من حقه أن يجد من يفك طلاسم ما يكتب، ولهذا فإن المدرسين أكثر قدرة من الصيادلة على قراءة النصوص المكتوبة بخط رديء.
jafabbas19@gmail.com
28/1/2014