مِهن ومِحن (12)

جعفر عباس

أعتقد أن الطب هو أصعب مهنة مقارنة بجميع المهن التي يعمل بها حاملو الدرجات الجامعية، ولو - لا قدر الله - عملت طبيباً، فلا أعتقد أنني كنت سأستمر في المهنة أكثر من أسبوعين، وذلك لعدة أسباب من بينها أنني عاطفي جداً، فلو شخصت حالة مريض واستنتجت أن وضعه حرج وأن احتمالات شفائه ضعيفة لعانقته وبكيت، والاحتمال الأكبر مع مريض كهذا هو أن بكاء الطبيب لحاله قد يعجل بوفاته أو يصيبه بمرض نفسي فوق ما يعانيه من مرض، فالمريض يلجأ إلى الطبيب طلبا لـ(الأمل)، وحتى لو كان المريض مدركاً أن حالته الصحية حرجة، فإنه يريد أن يسمع من الطبيب كلاما بمعنى: إن شاء الله باستخدامك هذا الدواء أو بعد خضوعك للعملية الجراحية ستبدأ حالتك في التحسن.

والأمر الآخر الذي كان سيتسبب في فقداني لعملي كطبيب هو أنني كنت سأدخل في (مضاربة/شجار) مع عدد من المرضى، فلو جاءني مريض وبدأ كلامه: يا دكتور أنا عندي قلب!! سيكون ردي عليه: كلنا عندنا قلوب، فلماذا تتفشخر بأن عندك (قلب)؟ وهنا سينفعل المريض: أنت ما تفهم؟ قلبي عيان وتعبان.. وكيف عرفت أن قلبك عيان وتعبان؟ يا دكتور كل ما أأكل ملوخية أحس بطعنات في الصدر وأسفل البطن!! طيب وهل قلبك ممتد من القفص الصدري إلى ما تحت السُّرة؟ على كل حال اعمل فحص للفسحة والبول ومن باب الضمان نعمل رسم للجهاز الضمي بالموجات الصوتية.. لا لا لا لا، لازم أولا تخطيط قلب.. ممكن تخطيط القلب بعد ما نشوف نتائج الفحوص.. لا لا لا.. تخطيط القلب أولاً وأخيراً.. أقول لك: أمشي لجماعة التخطيط العمراني يعملوا لك تخطيط قلب وأذن وأنف وحنجرة. ومثل هذا الحوار يقود بالتأكيد إلى اعتداء المريض على الطبيب (يذكرني الحوار الافتراضي أعلاه بأنني كنت سأكون فاشلاً في تقديم برامج إذاعية أو تلفزيونية تفاعلية يتم فيها استقبال أسئلة الجمهور، ففي مثل هذه البرامج وبعد أن يضيع المتصل ثلاث دقائق في التحية و(والله أنا أحبك في الله.. وأشكركم على هذا البرنامج الفريد الصنديد) يقول: ممكن أطرح سؤالا؟ لو كنت مقدم البرنامج لقلت له: لا مش ممكن تطرح سؤالاً، لأن الغرض من البرنامج هو عدم تلقي الأسئلة أعني أن ممارسة الطب تتطلب (طول البال) والصبر على سخافات المرضى الذين يذهبون إلى العيادات ولديهم تشخيص جاهز لحالاتهم المرضية، طيب لما أنت عارف مرضك لماذا تأت لمقابلتي؟ يا دكتور الدواء غالي وقلت أجي المستشفى وتكتب لي (فنتولين وبروفين ودسباتلين وكافيين ومورفين وثاني أوكسيد البنزين!

ويا ويل الطبيب الصادق المخلص الذي يقول لمريض (حالتك كذا وكذا وستزول بالراحة / الرياضة / التغذية، ولو لم يحدث تحسن ترجع لي بعد عشرة أيام)، ويذهب مثل هذا المريض إلى أهله / وأصدقائه ويقول لهم: تخيلوا أن هذا الدكتور الغبي ما أعطاني ولا حبة أسبرين، أشك في أنه درس طب.

ولأننا قوم لا نحسن الظن بالشرطة والقضاء، ولا نلجأ إليهما لتقديم شكوى بحق طبيب، لأن في التعامل معهما (تلتلة) فإن بعضنا وعندما لا يتعامل معهم الطبيب بطريقة (ما يطلبه المستمعون)، يأخذها من قاصرها، وينهال على الطبيب ضرباً، فيدخل في دروب التلتلة عن جدارة، ويدافع عن عدوانه أمام القاضي: تصور.. ما كتب لي دوا.. ويقول لي روح تغذى وارتاح؟ يحسبني حمّال في سوق الخضار وللا شايف أن عندي سوء تغذية؟ والله الأكل اللي نرميه في الدرم يكفي قبيلة.

jafabbas19@gmail.com

29/1/2014