العيال مصحصحون ونحن في غفوة

جعفر عباس

كان صديقي القطري مبتعثاً في الولايات المتحدة لنيل درجات جامعية عليا، وسألته ذات مرة عن مدى التقدم الدراسي الذي أحرزه ولده البكر، فأبلغني أنه ترك الدراسة، ولم يبد على صديقي أنه منفعل أو غاضب لذلك فسألته: وأين دورك؟ هل اكتفيت بحكاية أن (الولد ما يحب المدرسة)، وتصرفت كما كان يفعل جيل آبائنا الذين كان بعضهم يقول إن التعليم (الزائد) يفسد الإنسان؟ فقال لي إنه اكتشف أن الولد كان يزوغ من المدرسة، ويشتري السيارات القديمة ويقوم بإصلاحها ثم بيعها بالتعاون مع صاحب ورشة أمريكي، وأنه طالما أثبت أنه مولع بميكانيكا السيارات، ولا يرغب في التعليم الأكاديمي فقد كان الحل الوحيد أمامه أن يشجعه على إتقان مهنة (الميكانيكي)، وبالفعل فقد أثبت الولد شطارته في هذا المجال وخلال وجود العائلة في أمريكا كان دخله من إصلاح السيارات يفوق مخصصات والده للإعداد للدكتوراه، وعاد ذلك الولد الميكانيكي إلى قطر قبل سنوات، والتحق بشركة قطر للبترول كميكانيكي، وأثبت جدارته فتم إيفاده لنيل درجة البكالوريوس في الهندسة الميكانيكية من أمريكا!

في أحد محلات (كودو) للوجبات السريعة في مدينة الرياض التقيت ثلاثة بائعين سعوديين، ولك أن تتخيل مدى سعادتي عندما عرفت أنهم إخوة وطلاب بالجامعات، وأنهم فخورون بكونهم أتوا من خارج الرياض للحصول على أي عمل لتوفير جانب من مصاريف الدراسة، وقال أحدهم إنه قد يستمر في مجال بيع الأطعمة بعد الحصول على الشهادة الجامعية لأنه يستمتع بالتعامل المباشر مع الجمهور، فقلت له: إذا وجدت التقدير من مخدمك وتم تحسين وضعك الوظيفي فلا تضيع عمرك في الجامعة لأنك قد لا تجد بعد التخرج وظيفة حتى في محل شاورما في المنطقة المحيطة بالحرم في مكة حيث يباع سندويتش اللحم بريال واحد.. (سألت أحد الباعة هناك: لحم وطواط أم فيل هذا الذي يباع الساندويتش منه بريال؟).

والشاهد ونحن في منتصف العام الدراسي، هو أنه لا طائل من إرغام أولادنا وبناتنا على دراسة مواد لا يحبونها: "قسم أدبي في عينك يا حمار!! أنا أبغيك تدرس طب ولازم تدخل قسم علمي وبجيب لك مدرس خصوصي"! فبعض الآباء يعتقدون أنه يمكن تعاطي المواد الأكاديمية بطريقة الكبسة: اكبس البطن واحشوها ليأخذ الجسم ما يأخذه ويلفظ ما يلفظ!. وقرأت في عدد قديم من صحيفة "الأوبزرفر" اللندنية أن البريطاني (سوجوي روي) ظل أحد أميز دارسي الفيزياء في جامعة كمبردج، ولكنه هجر الدراسة!! لماذا يا ولد يا طائش؟ قال لأنه يحب ألعاب الكمبيوتر ولا يكاد يشبع منها، وظل نحو سنتين يقضي نحو عشر ساعات يومياً يلعب بالصواريخ والطائرات الوهمية، حتى دخل مسابقة دولية وفاز فيها بنحو 50 ألف دولار وبعدها اختطفته شركة تعمل في مجال ابتكار الألعاب وتدفع له شهريا نحو 20 ألف دولار، ورغم أن أباه متخلف مثلي مثلك (فهو هندي الأصل) فإنه أدرك أن (اللعب) هو مستقبل ابنه ولم يطرده من البيت بعد أن صاح فيه: "ما تستحي على وجهك.. جالس ليل نهار مثل الجهال أمام الكمبيوتر"! بالمناسبة، في كوريا الجنوبية تقام بطولة لألعاب الفيديو يفوز الأبطال فيها بالملايين، وليست هذه دعوة لهجر الدراسة والتفرغ للب، ولكنها محاولة لتنبيه أولياء الأمور إلى أن الحياة تغيرت وتنوعت، وأن الرغبة في تعلم شيء معين واكتساب المهارات فيه قد يكون أهم وأجدى من الحصول على درجات رفيعة فيه.

jafabbas19@gmail.com

3/2/2014