صراع الأجيال بين ما هو طيب أو (بطّال)

جعفر عباس

كان أبي رحمه الله يملك جهاز راديو أثرياً، ينتمي إلى عصر ما قبل الكهرباء، ويعمل ببطارية في حجم بطارية السيارة، ولا أعرف لماذا حرص على اقتنائه فلم يكن معنياً بالسياسة، ولا احسب أنه كان يعرف أغنية واحدة تتردد عبر الإذاعة السودانية، (كان أهم ما يبثه الراديو في نظر جيل أبي في السودان هو أسماء المتوفين فقد كانت هناك نشرة أخبار محلية في الثامنة من مساء كل يوم وختامها أسماء من ماتوا ومواعيد الدفن وأماكن تلقي العزاء)، ولكن الراديو كان أداة الترفيه الوحيدة المتاحة لنا نحن عياله، وكنا نجلس أمام الجهاز نتابع أحوال ذلك الكائن الخرافي المسمى بـ(الحكومة) ونستمع إلى الأغاني، ثم ظهر مطرب اسمه إبراهيم عوض، وكان، وسيما وشديد التأنق والاعتناء بمظهره، وكثير التهذيب وجم الأدب، ولكن مشكلته مع جيل آبائنا كانت في أنه طلع بأغان سريعة الإيقاع، بسيطة الكلمات مثلت نقلة من رتابة الأغاني القديمة وإيقاعها البطيء، ولأن (الصعاليك) كانوا يرقصون في الأفراح على إيقاع تلك الأغنيات، قرر والدي أن غناء إبراهيم عوض مزعج وفاسد، وبالتالي (ممنوع) ولأن غناءه كان متميزاً عن الغناء السائد، فقد كان والدي قادراً على تمييز صوته ويغلق الراديو بمجرد سماعه إياه، وينهانا عن الاستماع إليه مستخدما عبارة (خلي الزفت دا يسكت)، ودارت الأيام وصرت أباً، وظهر نوع جديد من الغناء اصطلح الناس على تسميته (الشبابي)، وتصدى له أبناء جيلي الذين صاروا آباء، وباتوا يصفونه بكل سوء، ويترحمون على الغناء القديم: أين هؤلاء من أم كلثوم وفريد الأطرش ووديع الصافي وفيروز؟ وهكذا فأن كل جيل يحاول ممارسة التسلط على الجيل الذي يليه، وهكذا فإن جيلنا يسعى لإلغاء عمرو دياب وحكيم والزغبي والساهر.

وأقر وأعترف بأنني لا أستطيع التمييز بين صوت عمرو دياب وصوت محمد الهنيدي، ولم استمع لأي أغنية لنوال أو منال أو سعال أو إسهال عمداً، فمؤشر راديو السيارة عندي ثابت عند إذاعة "الجزيرة أف أم" بالعربية والإنجليزية، وقد يستخدم غيري سيارتي ويحرك مؤشر الراديو وعندما أقودها تتسرب منه أحياناً أغنيات للمذكورات أعلاه، ولكنها لا تلفت انتباهي، لعدة أسباب أهمها أنني مش فاضي، وأن ذوقي الموسيقي وطني شوفيني، ولا تهزني عادة إلا الموسيقى السودانية وما شابهها من إثيوبية وموريتانية وإفريقية عموماً، وما يشدنا نحن السودانيين إلى الغناء الخليجي هو كثافة إيقاعات الطبول والدفوف فيه، ولكنني لا أعطي نفسي حق القول إن الغناء الشبابي تافه فقط لأنني لا أستسيغه، ولا أفهم ما هو الغناء الهابط وما هو الغناء الصاعد، وإذا كان المعيار هنا لكلمات الأغاني فيا ما هناك أغنيات نصفها بـ(الخالدة) فيها كلام (يكسف حتى روبي اللي ما تتكسفش)! بل أذهب إلى أبعد من هذا وأقول إنني لا أعتبر الشاب الذي تبدو قصة شعر رأسه وكأن (مدحلة) أو (وابور زلط) دهسه بينما كان نائماً في شارع مسفلت، لا أعتبره جانحاً أو سيئ الأدب، على الرغم من أنني أود لو أقشر فروة رأسه بقطعة زجاج، وينسى أبناء جيلي أنهم كانوا يوما ما (متمردين)، وكان لبس البنطلون في القرية على عهود صبانا ضرباً من التمرد بل والخنوثة، وكان من يستخدم (النيفيا) أو أي دهان لترطيب الجسم يعتبر (نُص كُم)، ومن يطيل شعر رأسه أكثر من سنتمتر واحد كان يعتبر صعلوكاً فالتاً "فتجنبوه").

jafabbas19@gmail.com

30/1/2014