مهن ومحن (42)
جعفر عباس
دعوا أعرابياً إلى السفر بالبحر، فرفض وبرر رفضه بأنه (يخشى المعاطب / طين أنا وهو
ماء / والطين في الماء ذائب)، وبدوري أرفض ركوب البحر، ولكن ليس فقط لأنني من طين،
وبالتالي قابل للذوبان في الماء، ولكن لأنني أكره وأتفادى الملل، فلو كان ركوب
الطائرة من المنامة إلى لندن يستغرق سبع ساعات تجعلك تتمنى لو أن شركات الطيران
تعطي البنج الكامل لكل راكب حتى لا ينظر في ساعته ويقول في سره: أف.. طايرين خمس
ساعات ولسه باقي ست ساعات، الجماعة غيروا الأطلس دون علمنا ونقلوا لندن إلى غرب
كندا؟ إذا كان الأمر كذلك في رحلة من سبع ساعات فكيف يكون حالك لو كنت مطالباً
بالسفر بين المدينتين بحراً لثلاثة أسابيع وسبع ساعات؟ كثيراً ما يقول لي أحد أفراد
عائلتي أو صديق: يللا نروح حديقة كذا، فأقول لهم: شفت الحديقة وزهورها ونوافيرها
أربع مرات و(ما تلزمنيش)، طيب نروح الكورنيش. فأقول: الكورنيش بالذات شفته سبعمائة
مرة والمنظر فيه ثابت: ماء على امتداد البصر وبعض الانتحاريين يتسابقون فيه
بالدراجات المائية مما يسبب لي توترا شديداً.
أعني أن ركوب البحر يعني أن تنظر إلى الماء، الماء نفسه يوماً بعد يوم أسابيع
وأحياناً أشهراً متصلة، ولهذا فإنني أعجب لمن يختارون العمل في مجال النقل البحري،
وهم قادرون ومؤهلون للحصول على وظائف على الأرض الثابتة (رغم أنف مدرسي الجغرافيا
الذين يزعمون أنها تلف وتدور ع الفاضي): كيف يقضي الإنسان السنة تلو الأخرى وهو
يجتاز المحيط الأطلسي ثم الهادي ثم الهندي، ولا يرى طوال أسابيع غير الماء والسماء
والحيتان البلهاء وهي (تبلبط) في الماء، وحتى الحيتان تراها وهي تلفظ الماء (أففف)
كل بضع دقائق في شكل نوافير تعبيراً عن إحساسها بالملل من طول البقاء في الماء، ومن
يرى البحارة يغادرون السفن في الموانئ التي يتوقفون عندها بعض الوقت، يحسب أن هؤلاء
الجماعة كانوا في السجن ونالوا إفراجاً جماعياً، لأنهم يهجمون على المقاهي والحانات
والمطاعم، ويمشون في الشوارع على عجل وهم يطلقون الصيحات المرحة، وتاريخ النقل
البحري والأفلام السينمائية الغربية تحفل بقصص البحارة الذين ما نزلوا بميناء إلا
بحثوا عن الخمارات وأوكار المتعة الجسدية (التجارية)، ثم الهجوم على المطاعم لتناول
مختلف أصناف الطعام (إلا السمك وبني عمومته)، يحدث هذا مع أن معظم السفن التجارية
تقدم الخمور وأطايب الطعام لطواقمها، ولكن من يقضي في البحر مدة طويلة يكون قد مل
حتى وجوه زملائه، ويريد أن يشم هواء خالياً من (الزفر)، ومخالطة أقوام آخرين ولو بـ(العافية)،
ولأن طول البقاء في البحر يجعل الإنسان (ع الهبشة)، وبالتالي، سريع الاشتعال، فإنك
تسمع أو تقرأ كثيراً عن المشاجرات التي يكون البحارة طرفاً فيها في الموانئ.
وهذه الصورة النمطية السلبية لا تقول الحقيقة حتماً عن كثيرين من العاملين في أعالي
البحار، وأعرف أشخاصاً ذوي مؤهلات أكاديمية عالية وفنانين مرموقين يعشقون البحر
وقبلوا بوظائف في أدنى هرم الخدمة بالسفن، تاركين وظائفهم (الأرضية) المريحة، وعرفت
أنهم في منتهى السعادة بأعمالهم، وهؤلاء في تقديري يجمعون بين عشق البحر وعشق
السفر، فالبحر وطنهم والإنسان السوي لا يملُّ وطنه، وفوق هذا يجدون أنفسهم يوماً في
الأرجنتين ويوماً في اليابان ويوماً في بابوا غينيا الجديدة، وكل ذلك يشحنهم
ليطيلوا البقاء على متن السفن، من دون أن يكون بهم النزق الذي تعكسه الأفلام عن
حياة البحر ومن دون أن ينزلوا الشواطئ بإحساس من نال الحرية بعد طول حبس.
jafabbas19@gmail.com
5/3/2014