مِهن ومِحن (17)
جعفر عباس
مازلنا في الجو لنتابع طبيعة عمل طواقم الضيافة الجوية، فبعد أن يجلس الركاب في مقاعدهم، لابد من التأكد من أنهم يربطون أحزمة السلامة، ولابد وحتما هناك راكب أو أكثر لا يحب ربط الحزام في الطائرة أو السيارة، أو لا يعرف كيف يربطه فيصيح: ممكن تبدلوا هذا الحزام لأنه قصير وعجزت عن ربطه، وتكون الصيحة في محلها، إما لأن محيط بطن الراكب في حدود 76 بوصة أو لأنه لا يعرف كيفية تطويل وتمديد أحد طرفي الحزام. ثم يغمغم سائق الطائرة بكلام لا يعني أحداً ويختتمه بعبارة موجهة لطاقم الضيافة: آرم دورز فور ديبارشر.. كذا دائماً، لأن الإنجليزية هي لغة الطيران العالمي، وبها وحدها يتم التخاطب بين الطائرات والمطارات في كل أنحاء العالم، وتلك العبارة تعني: أغلقوا الأبواب توطئة للإقلاع، (آرم يقصد بها (إغلاق) ولكنها كلمة تعني أيضاً (التسليح)، وقد يحسب راكب ما أن تعليمات القبطان بتسليج الـ(دورز) وهي الأبواب، هي شفرة لتلغيم الأبواب ومن ثم تفجيرها، مما يعني أن الطائرة مختطفة وأن إرهابياً ما استولى على عجلة قيادتها)، وترى أحياناً مضيفة لا يزيد وزنها على 42 كيلو تسحب باب الطائرة الذي يبلغ وزنه 300 كيلو، ثم تبدأ الطائرة في التدحرج ويبدأ طاقم الضيافة في توزيع حلوى غير قابلة للذوبان في الفم، وفجأة يصيح الكابتن: (كابن كرو تيك يور سيتس فور تيك أوف...) يللا يا مضيفين ومضيفات ألزموا مقاعدكم كي نقلع، فيجلس المساكين في مقاعد ضيقة ويستخدمون أحزمة صليبية ليبقوا ثابتين في المقاعد خلال الإقلاع.
وتقلع الطائرة فينقلع طاقم الضيافة ويتحرر من أسر المقاعد والأربطة الصليبية، ليبدأوا في توزيع الحلوى غير قابلة للذوبان في الفم على الركاب، وبعدها بقليل – وعلى حسب ذوق شركة الطيران – إما يقدمون ساندويتشات أو وجبات كاملة للمسافرين، وخلال ذلك وربما بعده أو قبله يصدر صوت: بوووع باااااع، فهناك أناس يصابون بالدوار فور إقلاع الطائرات، ويقلع الطعام والشراب من بطونهم عبر أفواههم قبل أن يتمكنوا من الإمساك بالأكياس الورقية المخصصة للاستفراغ، وعلى أحد أفراد طاقم الضيافة أن يفوض أمره إلى الله ويأتي بمناديل ورقية ويزيل آثار العدوان، وهناك صنف من البشر يحسب أن ركوبه الطائرة – حتى لو كان في آخر مقعد في الدرجة السياحية فيها – يجعل منه شخصاً مميزاً، فتراه يصيح – مثلاً – في المضيفة: يا بنت أنت.. هاتي شاي وماي... وبالمرة قرصين بندول.. وآخر يوضع الطعام أمامه فيصيح: أنا مو نباتي.. حاطين خمسة جرام لحم وربع كيلو فاصوليا خضراء وجزر وهذا الشيء اللي كأنه شعر آدمي فلفلي (يعني القرنبيط / القنبيط ذي اللون الداكن).
وقد أجبرتني الظروف على السفر الجوي المتواصل ما بين 8 إلى 14 ساعة، وبما أنني لا يمكن أن أنام داخل طائرة حتى لو دسوا لي المورفين والهيروين في الطعام، فقد تسنى لي الانتباه إلى أن طواقم الضيافة الجوية قد لا يتسنى لها حتى مجرد الجلوس طوال مثل تلك الرحلات، وفي ذات رحلة صادفت مضيفة من جنوب السودان (لا أعترف بانفصال ذلك الجزء من وطني وما زلت أنتمي للسودان الموحد الذي ولدت فيه)، تعمل في الخطوط القطرية وكنا في رحلة إلى ماليزيا تستغرق أكثر من سبع ساعات وقلت لها: يا بنت الناس مالك وبهدلة الإقلاع والهبوط وتعيشين مهرولة من بلد إلى بلد كهارب من العدالة؟ فابتسمت وقالت: يا بلدينا أنا يا دوب حققت حلم حياتي (فقلت في سري: المسكينة لا تميز بين الحلم والكابوس).
jafabbas19@gmail.com
9/2/2014