الاستحقاقات الحكومية والرئاسية والبرلمانية في لبنان: الوهم الكبير
كمال ديب*
يكاد المراقب يضرب كفاً بكف لدى متابعته اللغط الكبير حول الاستحقاق الحكومي في بيروت، لأنّ أي استحقاق دستوري لبناني بات وهماً كبيراً، وهو أصبح كذلك منذ انهارت السلطات التنفيذية والتشريعية عام 1976 وبات واقعاً منذ ولادة اتفاق الطائف عام 1989 الذي فتح الباب على تفريغ الديموقراطية اللبنانية من مضامينها.
نقول إنّ السلطات التنفيذية انهارت (الرئاسة الأولى ومجلس الوزراء) والتشريعية (البرلمان) عام 1976 وبقيت متآكلة وهامشية منذ نهاية الحرب، ولا نقول إنّ مؤسسات الدولة اللبنانية هي التي انهارت، وهو تفريق مهم. ذلك أنّ مؤسسات الدولة الحساسة والمهمة (والتي يعود الفضل في عدد كبير منها لهمة الرئيس فؤاد شهاب) قد استمرت نسبياً (الجيش وقوى الأمن والضمانات الاجتماعية والصحية والأشغال وشركات الكهرباء والمياه، الخ)، والشعب اللبناني أصبح ومنذ زمن الحرب متمرّساً بشروط البقاء، من توفير الكهرباء والماء والبنزين والرغيف، وأحياناً الأمن الذاتي المناطقي أو الطائفي، ويعرف متى يخرج إلى العمل والمدرسة ومتى يبقى في البيت ليحفظ رأسه. ثم إن المدنية اللبنانية أصبحت منيعة ضد التفجيرات والنكسات الأمنية والسياسية والوضع الإقليمي، وتستوعب الأحداث بدرجة كبيرة من الصبر والجلد.
فعن أي استحقاق يتحدثون؟ وما هو الأمر الذي يجعل الاستحقاق الحكومي أو أي استحقاق دستوري آخر داهماً في لبنان؟
أولاً،
وهم الاستحقاق البرلماني
المرة
الأخيرة التي شارك فيها اللبنانيون في انتخابات قبل الحرب كانت لبرلمان 72. وهذا
البرلمان جدّد لنفسه لمدّة عشرين سنة حتى 1992. أما برلمان 92 فقد كان مزيجاً من
تسميات مباشرة لنواب جدد ومن تدخل سوري فاضح، وسط مقاطعة مسيحية. وفي 2013 جدّد
البرلمان لنفسه بدون تردّد، ولم يرفّ جفن أي نائب عندما شرّع البرلمان زيادات في
رواتب النواب. ونقول إنّ الاستحقاق البرلماني أصبح وهماً لسببين:
الأول لأنّ
العملية الانتخابية التي تتم كل أربع سنوات تعيد الأسماء نفسها والعائلات والقوى
السياسية في غالبيتها الرجعية الطائفية والاقطاعية. واللبنانيون يقولون لم يعد
الانتخاب ضرورياً مع النتائج المعروفة.
والثاني وهو نتيجة الأول أنّ البرلمان لا يقوم بواجبه التشريعي لخدمة المواطن اللبناني والنائب ينسى منطقته بعد الانتخاب: فالبرلمان لا يلتقي إلا في ما ندر ولا يقدّم أي مشاريع قوانين لتحديث لبنان على الصعد الاجتماعية والثقافية والتربوية والمدنية والاقتصادية والمالية وخاصة الضريبية، وهو يقاوم تحسين معيشة العامل اللبناني والأسرة اللبنانية، لأنّ البرلمان ومنذ الاستقلال عام 1943 يخدم أولاً مصالح الطبقة الفاسدة الطائفية، ومصالح التجار وأصحاب الأعمال شركاء هذه الطبقة في "السراء والضراء". ولن يكون ثمّة صعوبة في إنجاز بحث موثّق يؤكّد أنّ وجود هذا البرلمان من عدمه سيان عند اللبنانيين لأنّه لم يعد يمثّل نبض لبنان منذ عقود ولا يمارس صلاحياته في التشريع المفيد ويجدد عندما يحلو له.
ثانياً،
في الاستحقاق الحكومي
ليست المرّة الأولى التي يعاني فيها لبنان من غياب حكومة فعالة أو يعيش في ظل حكومة تصريف أعمال انتقالية حتى لو طال أمدها أو حتى في ظروف تجميد العمل الحكومي برمّته. وغني عن القول إنّ مجلس الوزراء اللبناني إنّما يمثّل الطبقة السياسية إياها التي أشرنا إليها أعلاه. وعندما يأتي إلى مجلس الوزراء ناس "أوادم" وغير مرتهنين للفساد فالأكيد أنّ الطبقة السياسية الفاسدة ستتكتل لمحاربة هؤلاء الوزراء وتسقطهم. وهذا ما حصل مع حكومة الشباب برئاسة صائب سلام عام 1972 والتي ضمّت شخصيات معروفة بوطنيتها وأخلاقها كهنري إدّه والياس سابا وغسان تويني وإميل بيطار. وهذا ما حصل إلى حد ما مع حكومة الرئيس سليم الحص الذي صوّره بعض الإعلام بأنّه "سرق المنصب من صاحبه"، وبات وزير المال جورج قرم عرضة لهجوم وافتراء شبه يومي.
ثم إنّ لبنان عاش بدون حكومة لمدّة سبعة أشهر بعد القطيعة بين الرئيس رشيد كرامي ورئيس الجمهورية شارل حلو عام 1969، كما عاش لبنان بدون حكومة لفترات طويلة عندما انهارت السلطة عام 1976، ومنها فترة القطيعة بين الرئيس كرامي ورئيس الجمهورية أمين الجميل في الثمانينات استمرّت حتى اغتيل كرامي في أول حزيران 1987، وفترة الحكومتين عامي 1988 و1989 (الرئيس سليم الحص والرئيس ميشال عون). وفي التسعينات شهد لبنان ظاهرة جديدة أضافها الرئيس رفيق الحريري هي "اعتكاف رئيس الحكومة" مع ما رافق ذلك من تعطيل للمجلس.
واليوم، ها هي الطبقة السياسية تحاول منذ إسقاط حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في مطلع 2013، تركيب حكومة أخرى برئاسة الاستاذ تمّام سلام. والتجارب التي ذكرناها أعلاه تثبت أنّ توصيف تأليف أي حكومة على أنّه استحقاق داهم هو وهم كبير. إذ سواء شُكّلت الحكومة أم لم تُشكّل فقد اعتاد اللبنانيون أنّ شيئاً لن يحصل، لا على صعيد الاقتصاد ولا الأمن ولا السياحة ولا على أوضاع البشر ولا على تصريف دوائر الدولة شؤون المواطنين.
ثالثاً،
الاستحقاق الرئاسي
ثمة فترات في العقود الماضية مرّ فيها وقت الاستحقاق الرئاسي بدون تنفيذ. في العام 1988 انتهى عهد الرئيس أمين الجميل فعيّن قائد الجيش العماد ميشال عون رئيساً للحكومة ريثما يصير انتخاب رئيس للجمهورية. ثم بدأت فترة الوصاية السورية فتحوّلت سوريا من ناخب بين ناخبين كثر لرئيس الجمهورية اللبنانية، إلى ناخب أوحد تقريباً مع الرئيس الياس الهراوي الذي جُدّد له بسهولة لثلاث سنوات عام 1995. ثم اختار الرئيس الأسد قائد الجيش العماد إميل لحود رئيساً للجمهورية عام 1998 والذي جُدّد له ايضاً لثلاث سنوات عام 2004. وعندما انتهت ولاية الرئيس لحود في تشرين الثاني 2007 لم تقع كارثة ولم يكن ثمّة استحقاق داهم بل استيقظ اللبنانيون صباح 25 تشرين الثاني والسلطة التنفيذية بيد رئيس الحكومة فؤاد السنيورة. وبقي لبنان بدون رئيس حتى 25 أيار 2008. صحيح أنّ الاستحقاق الرئاسي هو أخطر الاستحقاقات ولكنه خطير لأنّه إقليمي إلى درجة كبيرة ودولي إلى حد ما، وتدور حوله أزمات وتصعيدات بعضها بليغ (شمعون 1958، فرنجية 1976، سركيس 1982، الجميّل 1988، لحود 2004). ولكن مع "اتفاق الطائف" وسوء تفسير دور رئيس الوزراء في الدستور الجديد، وإضعاف ليس الرئيس المسيحي فحسب بل الوجود المسيحي برمّته في السلطة، لم يعد للاستحقاق الرئاسي معناه السابق، وفقد المنصب وهجه الذي خبره اللبنانيون مع بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب على سبيل المثال.
لاستعادة الديموقراطية
كل هذا يعني أنّ ديموقراطية لبنان باتت مفرّغة من مضمونها وأصبحت السلطات التنفيذية والتشريعية كمريض مصاب بترقّق العظام. وفجأة هناك مَن يدفع منذ أسابيع إلى تشكيل حكومة ويصوّر أنّ ذلك بات شأناً داهماً وهو ليس كذلك. بل السبب خارجي والدافع إقليمي يخدم اصطفاف الاستحقاقات الأخرى (الرئاسة والبرلمان) على سكة معيّنة وليس كرمى لعيون الشعب اللبناني. وحتى يستعيد لبنان معنى الاستحقاقات الدستورية الثلاثة، يجب القضاء على الفساد والمحاصصة الطائفية بين أعضاء الإقطاع السياسي وإنجاز الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية، وتوجّه البرلمان والحكومة للعمل الجاد الذي يخدم المواطن اللبناني أولاً.
ألم يتعلّم الزعماء وأمراء الحرب درساً هو أنّ الشعب اللبناني يدير لهم ظهره منذ سنوات ولا يبالي بأقوالهم وتصريحاتهم ومبارزاتهم الإقليمية، ولا يكترث لاستحقاقات يحددونها هم ويشعلون الإعلام بضرورتها متى يحلو لهم؟ نتخيّل المواطن اللبناني "يشقل" كتفيه بلا مبالاة وينصرف إلى تأمين معيشته.
* أستاذ جامعي لبناني - كندا
"النهار" بيروت 4/2/2014