مستقبل مصر بين الأمريكان والروس

د. كمال الهلباوي - كاتب مصري

لو تشاجرت عائلتان كبيرتان في بلد من بلدان العالم النامي، أو أي مكان آخر يكون لهما نفوذ فيه، فإن أمريكا، خصوصاً الأجهزة السيادية فيها، لن تنام حتى تستفيد من هذه المشاجرة، وتسعى إلى أن تحول نتيجتها لصالحها، ضمن برنامج "الفوضى الخلاقة"، وخوفاً على الأمن القومي الأمريكي. هذه هي العقلية الأمريكية الحاكمة باختصار شديد، وهذا هو فهمها للأمن القومي الأمريكي مهما كان متفوقاً، ومهما كانت أمريكا هي القوة العظمى الوحيدة في العالم كما هو واقع اليوم.

أشارت بعض الصحف المصرية يوم الخميس الماضي 13/2/2014، إلى جلسة من جلسات الاستماع في الكونغرس الأمريكي مؤخراً. كانت تلك الجلسة مخصصة لدراسة الوضع الأمني في مصر، واحتمالية أن يمتد أثر ذلك الوضع الأمني وحرب الإرهاب الحالية فيه، إلى أمريكا فيهدد الأمن القومي فيها، وهذا هو الخط الأحمر عند الأمريكان.

الخط الأحمر لتهديد الأمن القومي في أمريكا، في العقلية أو الإدارة أو الاستراتيجيات الأمريكية، يمتد حتى يشمل العالم كله، بما في ذلك إنتاج المواد الأولية التي قد يحتاج إليها، في ظن الأمريكان ودراساتهم، الحفاظ على الأمن القومي، فتستحوذ على تلك المواد، أو تراقب الاستهلاك لتلك المواد حتى في الدول المنتجة، وقد لا تسمح لتلك الدول باستخدامها أو استهلاكها بالكلية. لا يقتصر هذا الأمر على البترول وحده، بل يمتد إلى كل المواد الخام، خصوصاً النادرة ومنها بعض المعادن، ومن أهم تلك المواد اليورانيوم، إذ هو أحد تلك المواد التي يحتاج إليها العديد من الصناعات الاستراتيجية، والمطاط كذلك، على سبيل المثال لا الحصر. "لجنة مكافحة الإرهاب" والمخابرات بالكونغرس الأمريكي عقدت تلك الجلسة التي تحدثت عنها الصحف، حيث تباينت الآراء في المناقشات، ولكنها في الغالب الأعم مالت إلى توجيه بعض انتقادات إلى السياسة الأمريكية والطلب اليها بالضغط على مصر، ومن ذلك تعليق المساعدات الأمريكية لها.

شارك في المناقشات عدد كبير من "خبراء" محاربة الإرهاب، وخبراء العلاقات الدولية ومنها العلاقات بين مصر وأمريكا، كما شارك فيها "خبراء" صهاينة لا يهمهم إلا "أمن إسرائيل"، وليدة الحركة الصهيونية مهما فعلت بالآخرين من أهل فلسطين من قتل وتشريد وطرد وحرق حتى للأشجار، وبناء مستوطنات جديدة، ومخالفة معظم قرارات الأمم المتحدة من دون عقاب، لأن الحماية الأمريكية والشراكة الاستراتيجية بينهما، التي لن تفوقها شراكة أخرى حتى التي بينهم وبين دول الخليج – منبع البترول ومنجم الخيرات كلها – تحتم ذلك عليهم.

طبعاً هذا القول ينطبق أساساً على الإدارات المتعاقبة على حكم أمريكا منذ التسعينات من القرن الماضي، خصوصاً أصحاب البيت الأبيض وبطاناته العديدة، ويتميز الكونغرس و(السينيت)، كما تتميز معظم مراكز الأبحاث والجامعات بالرؤية الأصوب والنقد والنصحية التي يستفيد منها البيت الأبيض، ولكنه يهملها أحياناً وتحدث بسبب ذلك كوارث كثيرة.

أقوى المناقشات تبنت وجهات النظر التالية. النظرة الأولى في المناقشات حملها (ستيفن كوك)، ويرى أهمية، بل وضرورة، الاشتراك مع مصر والتعاون معها في محاربة الإرهاب، خصوصاً بعد إسقاط الطائرة الحربية فوق سيناء مؤخراً. ويرى الفريق الذي يؤيد (ستيفن كوك) ضرورة طمأنة مصر جيشاً وحكومة وشعباً، بأن أمريكا تقف إلى جانب مصر بقوة. وهذه المجموعة ترى أيضاً أهمية التعاون مع الجيش المصري، وتوفير المعدات والأدوات، والتكنولوجيا المطلوبة، لمحاربة الإرهاب الذي تتعرض له مصر حالياً.

النظرة الثانية التي مثلها (توماس جويسلن)، هي أن ما يجري في مصر حالياً عمليات إرهابية، خصوصاً في سيناء، وهذا في حد ذاته خطر داهم على "أمن إسرائيل". لا يهم (جويسلن) ومن على شاكلته أمن مصر، بل الخوف كل الخوف على "أمن إسرائيل"، طبعاً مع الخوف على الأمن القومي الأمريكي أولاً أو ثانياً.

النظرة الثالثة التي حملها (بيتر كينغ)، ترى أن ما يحدث في مصر حالياً هو عمليات إرهابية وتشكل خطراً على المنطقة بأكملها، ولكن الخطر الذي نبه إليه (كينغ) هو الخطر على الأمن القومي الأمريكي، وهذه النظرة الثالثة تتفق مع المقدمة التي أثبتها في صدر هذا المقال، طبعاً هذه النظرة لا تهمل "الأمن الاسرائيلي" أيضاً. وقد كان (كينغ) حازماً في كلامه حيث شددَّ على ضرورة وأهمية الدعم الأمريكي لمصر في هذه اللحظة الحرجة من محاربة الإرهاب، بل أكثر من ذلك فإنه طالب الحكومة الأمريكية بضرورة محاربة "الشبكات الجهادية" في سيناء، مذكراً بمقولات أيمن الظواهرى و"القاعدة"، عن ضرورة تكثيف عمليات "القاعدة" في مصر باعتبار أن الحكومة أو الإدارة المصرية إدارة كافرة.!

يتفق أهل النظرات الثلاث على عدة أمور منها، ضرورة وقوف الأمريكان إلى جانب مصر في محاربة الإرهاب. ليس هذا الوقوف طبعاً أو بالضرورة في حب مصر ولا الإنسانية، ولا محاربة الإرهاب في جوهره، ولكنه يأتى خوفاً على أشياء أخرى في مقدمتها رفاهية الأمريكان و"قوة الوطن"، الرفاهية والقوة ضمن الأمن القومي الأمريكي.

وتناولت المناقشات أيضاً ضمان تدفق المعلومات الأمنية بين مصر وأمريكا و"إسرائيل"، والحفاظ على الملاحة واستقرارها في قناة السويس، والحفاظ على ما يسمى بـ"اتفاقية السلام"، والحفاظ على أمن القوات والقواعد الأمريكية حتى في دول الخليج. يعني كلها مصالح للأمريكان أو "إسرائيل" أو كليهما، وجزء منها عن التعاون مع مصر في إطار "حرب الإرهاب".

تحدث المشاركون كذلك في جلسات الاستماع عن ضرورة دعم الاستقرار في مصر. لا يستطيع أي من المشاركين في هذه الجلسات أو الندوات المهمة مهما كانت مكانته العلمية أو القومية، أن يوجه انتقاداً واضحاً وصريحاً إلى "اسرائيل"، إلا في النادر.

الأمريكان أيها القراء، يدعمون الاستقرار على طريقتهم في الهيمنة والاستحواذ، وضرورة رضوخ الطرف الآخر، وإلا فإن عدم الاستقرار، وإثارة الفوضى بل وخطف حتى الرؤساء والاغتيالات أولى، والأموال المرصودة للعمليات السرية في أمريكا كبيرة لدعم عدم الاستقرار وليس الاستقرار، ربما تحت غطاء ما يسمى بـ"الفوضى الخلاقة"، ولا أدرى متى كانت الفوضى خلاقة.

أمريكا تراقب المشهد في العالم كله، خصوصاً مصر حالياً بدقة، ولا ترى أن تخرج مصر من الأزمة إلا وللأمريكان يد في ذلك، ومن هنا تأتي أهمية زيارة المشير السيسي والوفد المرافق له إلى روسيا، وإن كانت روسيا اليوم غير الاتحاد السوفييتي قبل انهياره في الإمكانيات والمكانة الدولية. إن أي اتفاقات مصرية كالتي توصل إليها المشير السيسي والوفد المرافق له أو شراكة مع روسيا سيكون لها أثر واضح على مستقبل العلاقات مع أمريكا والغرب عموماً.

انهار الاتحاد السوفييتي في معارك أفغانستان التي احتلها الأمريكان في ما بعد، وفرضوا هيمنتهم عليها بعد خروج السوفييت وتفتيت إمبراطوريتهم، ولم تشهد أفغانستان مع احتلال الأمريكان نفس الزخم "الجهادي الإسلامي" ضدهم في أفغانستان، كما كان ضد السوفييت، فهل الاحتلال الأمريكي أرحم من الاحتلال السوفييتي للأفغان؟ وأين كل من شارك في الجهاد في الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي؟ هل زحف بعضهم إلى المنطقة العربية، ليثيروا فيها ما أثاروا من قتل ودمار وصراع، أدى الى التدخل الأمريكي في المنطقة، وأدى إلى صراع مستمر لم ينتهي حتى اليوم في العراق وسوريا، ويستهدفون مصر اليوم.

طبعاً الحديث عن الأمريكان يعني الإدارات الأمريكية منذ بوش الأب مروراً بكلينتون ثم أسوأ رئيس حكم أمريكا وهو جورج بوش الابن، ثم وقوفاً عند باراك أوباما الذي وعد وعوداً كانت على غرار وعود الرئيس المخلوع مرسي في مصر، أما الشعب الأمريكي فهو من أطيب شعوب الغرب وأجهلها بالجغرافية والتاريخ. ولا أدري من أين يأتي هؤلاء الحكام أو كيف يختفون وقتاً طويلاً حتى يختارهم الشعب، ثم يظهرون على الطبيعة التي نراهم عليها بلا غطاء. لو كانت الإدارات الأمريكية عاقلة لما خسرت الحب الذي كان يبديه معظم العالم لأمريكا قبل الثمانينات، ولوفرت أمريكا على نفسها وعلى الأمريكان المبالغ التي أنفقتها لتحسين صورتها بعد أن شوهها الاحتلال والهيمنة الأمريكية وشوهتها الحروب، خصوصاً في أفغانستان والعراق وسوريا.

"القدس العربي" 14/2/2014