رسالة ودعوة للتبصرة والاستبصار
د. كمال الهلباوي
لي صديق عزيز جداً، ولنا أخوة طويلة معاً في الحركة الإسلامية، جمعتني به دعوة الإخوان الوسطية، وقيمها الثابتة في السياسة والأخلاق والاجتماع وغيرها، وجمعتني به أيضاً الهجرة القسرية في لندن، وقضايا الأمة وفي مقدمتها قضية فلسطين. أرسل لي رسالة أريد أن أناقشها في هذا المقال، لما فيها من مفاهيم تحتاج إلى توضيح، وأخطاء في الرؤية تحتاج إلى تصويب. الرسالة تقول "السلام عليكم. هل بعد 60 سنة من محاربة الظلم، وتحمل التشرد في الفيافي والقفار في سبيل الله ومن أجل الحرية، تكون الخاتمة فرداً في فرقة مطبلين ومزمرين لقاتل مجرم وخائن وغادر؟! أليس هذا أمراً عجابا؟" وصلتني هذه الرسالة على الهاتف يوم 25 يناير/كانون الثاني 2014.
وقفت أمام الرسالة طويلاً، وكنا قد تقابلنا قبل ذلك في برنامج في قناة "بي بي سي" العربية، عن مصر عبر الهاتف، ورحبت به كعادتي ولم يرحب بي، كما كنا من قبل. يرى صديقنا العزيز أن ما حدث في مصر بعد 30 يونيو/حزيران هو انقلاب عسكري وله رأيه، ولكن لا يرى أو لم أسمع منه على العلن رأياً واحداً علناً ينتقد فيه أداء الإخوان السيئ المخالف لثوابتنا على أي مستوى، أو انحراف الإخوان عن خط الدعوة الوسطى الأصيل، ربما ينصحهم الرجل في السر حتى لا ننشر (الغسيل) على الملأ، وله رأيه في ذلك، ولكن يبدو أن صديقنا العزيز، لم يقرأ ما كتبته قبل أن يصل الإخوان للسلطة، أو ما كتبته وهم في السلطة، أو ما كتبته بعد الكوارث الفظيعة التي تسببت فيها قيادة الإخوان في مصر، ووقع فيها من وقع، بسبب الاتباع الأعمى والانحراف عن بعض الثوابت وعدم النصيحة أو ضعفها، رغم أن الدين النصيحة، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم. وصديقنا متخصص في الدراسات الإسلامية، وله باع طويل في الدعوة، وارتقاء المنابر، وله عقل راجح وصائب، إلا في ما تتحمله هذه الرسالة من معان أخالفه فيها.
أنا سعيد بأنه بدأ رسالته بالسلام عليكم، على عكس العديد ممن كنت بالنسبة لهم أخاً كبيراً، وأستاذاً مخلصاً، ومعلماً فاهماً للدعوة، فإذا بهم يرسلون رسائل لا يمكن أن نكتب أياً من كلماتها مرة أخرى، ومنها بعض ما يمكن أن يقال هنا، كما قيل ويقال على "الفيسبوك" من اتهام بالخيانة والعمالة والنذالة وارتماء في أحضان إيران، بل والتشيع. صاحبنا، وهذه شجاعة منه، وتقدير أعتز به عن تاريخ سابق، رأى فيه بعض الحسنات، من مجابهة للظلم، وتحمل التشرد في الفيافي القفار "لعله يقصد أفغانستان وباكستان وفي سبيل الله، ومن أجل الحرية".
شهادة والله، أعتز بها كثيراً على عكس من أنكروا التاريخ الطويل، ولم يروا فيه حتى إيجابية واحدة، بل أنكروا ارتباطى بالإخوان تنظيمياً وفكراً، وتلمذة وتعليماً. شطبوا حتى ما كان من حسنات لي في التاريخ الذي تغنوا به من قبل، ولكن الله تعالى يعرفها، وقد قال سبحانه وتعالى ما يجب أن يعلمنا في ذلك الموقف ((فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)). والحمد لله تعالى أن سبحانه هو ((مالك يوم الدين)). والحمد لله تعالى أن ليس له شريك في الملك. وأنا أشكر صديقي العزيز لهذه الشهادة. صديقي يرى في رسالته أن خاتمتي "فرد في فرقة مطبلين ومزمرين لقاتل ومجرم وخائن وغادر"!.
وهو يعرف يقينا مدى استقلاليتي في الرأي، وفي التحليل السياسي في قضايا كثيرة، ويعرف بعض مواقفي أيام أن كنت عضواً في مكتب الإرشاد ومجلس الشورى، ومتحدثاً رسمياً باسم الإخوان في الغرب، وعضواً في الفريق الاستشاري الإخواني الفلسطيني وقضية فلسطين.
فأنا التزامي الإسلامي الوسطي، وعقلي، الذي تعلمت كيف أستعمله، كل ذلك يحول بينى وبين أن أكون فرداً في فرقة مطبلين ومزمرين من أي نوع إسلامي أو غير إسلامي، ويا ليته كان قد أَوضحَ أكثر، ماذا يقصد بذلك؟ هل يقصد قبول عضويتي في (لجنة الخمسين) التي أخرجت دستوراً شهد به كل من له عقل سليم، وكل محب للحرية ومحاربة الظلم، وكل من يقف إلى جانب الكرامة الإنسانية والعدالة، ومطالب الثوار. للأسف لم يُفعَّل الدستور بعد، ونحن وراء تفعيله، حتى لا يظل حبراً على ورق، ولا تنتهك الفلسفة ولا القيم التي وراء هذا الدستور، ووراء بنائه وإخراجه بالشكل الذي أخرج به.
وأقول لصديقي العزيز، أنا لم أشهد تطبيلاً ولا تزميراً، ولم أشترك في أي منهما. أما حديثه عن القاتل والمجرم والخائن والغادر فلا أرى من يقصد. ربما يقصد بذلك الرجل الذي شعر قطاع عريض من الشعب بزعامته بعد وقت طويل من فراغ هذه المكانة، بعد موت الزعيم عبد الناصر وما قدمه ونجح فيه وحاول أن يقدمه ولم ينجح فيه لقضيه فلسطين التي تهم صديقنا العزيز. استطاع ناصر رغم العلاقة السيئة مع الإخوان وما شابها من مظالم، أن يتحدى العالم الغربي في قضية فلسطين وأن يقيم مع معظم العالم العربي "اتفاقية الدفاع العربي المشترك". نسى صديقنا العزيز خطاب المعزول مرسي إلى بيريز، وما أدراك بـ"الصديق العزيز بيريز"، نسي خطاب الفضيحة أو وجد له عذراً، لم يجده لي. نسى صديقنا العزيز أن الإخوان عزلوا أنفسهم عن الثورة وعن جموع الشعب الذي حملهم إلى البرلمان وإلى الرئاسة.
إذا كان صديقنا العزيز يرى مثل بقية معظم الإخوان أن ما حدث في يوليو/تموز 2013 كان انقلاباً، فإنهم لم يروا 30 يونيو، وأنكروه، كما قال عنه الإخوان من قبل "زوبعة في فنجان". وإذا كان صديقنا العزيز يرى أن تحالف دعم الشرعية بعاصم عبد الماجد ومن عمل على شاكلته هو الطريق، فليراجع نفسه في ضوء القرآن والسنة ومنهج السلف الصالح ومنهج الإخوان المسلمين، كما وضعه الإمام حسن البنا، رحمه الله تعالى، الذي أساء إليه الإخوان الذين يؤمنون بالسرية والعنف واللجوء لكنف الغرب خصوصاً الأمريكان، وأذرعهما في الأمة. وأيضاً، بالانحراف والاعتماد على أهل الثقة فقط في إدارة البلاد، فانحرفوا مرة أخرى عن المنهج وأصبحوا كما قال الأمام البنا "ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين" طبعاً من دون تكفير. وأود أن يدرك صديقنا العزيز أن مصر تواجه اليوم موجة إرهاب وعنف يريدها أن تكون مثل سوريا، ولن يكون ذلك بإذن الله تعالى، وإذا لم يستطع أهل غزة أن يصبروا على مكفراتي واحد – كما قالوا – هو الإمام الشيخ عبد اللطيف الذي قتل في مسجده في غزة نتيجة العنف أو التكفير، فكيف يريدون أن تصبر مصر على من يضمر لها شراً وتقسيماً وتفتيتاً، وتمهيداً وتمكيناً لخريطة "الشرق الأوسط الجديد" كما يريدها الأمريكان والصهاينة؟
القاتل والمجرم والخائن والغادر هو العنف والإرهاب ومن يقف وراءه، فرداً كان أو مجموعة، إسلامياً أو غير إسلامي. وعلى أيه حال، فإنني على أرض صلبة من فهمي للأوضاع في مصر، ومستقبل مصر العظيم بإذن الله تعالى، وهو ما لم يفهمه الإخوان، فحولوا بأدائهم السيئ قطاعاً عريضاً من الشعب المصري الثائر الطامح، ليقف ضدهم بالملايين في 30 يونيو ولأول مرة في تاريخ الدعوة، بعد أن كانوا عوناً للإخوان في الانتخابات، ألا يرى صديقنا ذلك؟ يا ليتهم فعلوا مثلما فعل عقلاء تونس؟ ولكن فات الأوان ونحن لا نبكي على اللبن المسكوب أبداً.
أقول للصديق العزيز، أنا لم أترك المشروع الإسلامي، ولكن هدمه الإخوان المسلمون بأخطائهم، وكرهوه لبعضهم، ليس في مصر وحدها ولكن في العالم العربي والإسلامي كله، خوفوا الناس من الحكم الإسلامي الذي تشوقنا إليه. ونصيحتي إن كانت لي نصيحه باقية، هي أن يراجع الإخوان كلهم داخل وخارج مصر مواقفهم، وهم يضعون أمام أعينهم وعقولهم: ((وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى))، ربما آنئذ مع الإنصاف والموضوعية، يتغير حديث ووصف صديقنا العزيز، فيرى من رآه قاتلاً ومجرماً وخائناً وغادراً، بطلاً وزعيماً وقائداً، أنقذ مصر من التفتت والتقسيم أو التنازل عن بعض أجزائها، لتتوسع بذلك "إسرائيل" المحتلة لأرضنا، وجار حالياً إنقاذ مصر من بقية الإرهاب والهيمنة.
أما بالنسبة لي فسأظل بمشيئه الله تعالى وفياً لدعوة الإسلام الوسطي كما جعلها الله تعالى كبقية المسلمين والعاملين للإسلام الصحيح الوسطي ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ))، وسأظل وفياً لقضية فلسطين والمقاومة الفلسطينية إسلامية وغير إسلامية، والمقاومة اللبنانية، وكل مقاومة للاحتلال وللظلم والاستبداد والتخلف المشين إسلامية وغير إسلامية، وسأظل في خدمة دعوة التقريب بين المذاهب، وكل ما يرضي الله تعالى، كم دعوت وسط الركام الهائل، والهجوم الذي أرى بعضه غير مبرر على المشروع الإسلامي، وعلى المقاومة للصهينة والأمركة، وكذلك بعض التجاوزات، التي يقع فيها بعض أجهزة الأمن وهي تمكَّن لمصر الاستقرار ومواجهة الإرهاب.
أخيراً أقول لصديقي العزيز ومن يريد من القراء، اقرأوا مقال (السيناريوهات الأربعة المتوقعة في مصر) الذي شرحته في التلفاز ونشرته في "القدس العربي" و"صوت الأمة" في 15/3/2013، وفي شهر يونيو 2013، مع بعض الإيضاحات حتى يفهم من لم يفهم في المرة الأولى، وإن كنت أشك كثيراً في ذلك.
"القدس العربي" 7/2/2014