السعودية والمستقبل من التصدّي إلى الاحتواء
د. ليلى نقولا الرحباني
دخل لبنان مرحلة جديدة بتشكيل الحكومة، بطريقة فاجأت العديد من المواطنين، وجعلت الانتقادات قاسماً مشتركاً بين جمهور كل من "المستقبل" و"حزب الله"، وامتدت حتى جمهور "التيار الوطني الحر"، ولعلّ ما حصل في لبنان قد يكون نتيجة طبيعية لما يحصل في المنطقة من تطورات متسارعة، وأهمها ما يحصل على الصعيد الإقليمي من توجّه لتسويات قد لا تكون قد نضجت بشكل كامل بعد، ولكن هياكلها بدأت تتحضّر، خصوصاً على صعيد استدراك المملكة العربية السعودية نفسها، وإدراكها حتمية الانخراط الايجابي في التسوية الاقليمية، التي ستؤدي حتماً إلى "تحالف دولي وإقليمي ضد الإرهاب".
كيف حصل كل ذلك؟.
بدءاً من العام 2007، بدأت مراكز التفكير الأميركية تتحدث عن تغيّر في الاستراتيجية الأميركية في "الحرب العالمية على الإرهاب"، لاسيما بعد فشل السياسات الأميركية في العراق، ورغبة أميركية شديدة في الخروج من المستنقعين العراقي والأفغاني، وبدأ الحديث عن مقاربة مختلفة لمواجهة "التطرف الإسلامي"، وذلك باعتماد سياسة الاحتواء containment، بل المواجهة، وأنه من الأفضل أن يتم الاحتواء عبر قوى إسلامية أخرى "معتدلة" تسيطر عليه، وقد تصل إلى القضاء عليه نهائياً. وبما أن هذه العناصر المتطرفة موجودة في أماكن جغرافية منتشرة في أنحاء العالم، لا بد من اعتماد سياسة التجميع، أي السماح للعناصر الإرهابية المتطرفة بالتجمع في البلدان العربية، تمهيداً لاحتوائها والقضاء عليها، وهو ما حصل في ليبيا وسوريا بالذات، التي شهدت تدفقاً غير مسبوق تاريخياً للعناصر "الجهادية" من أرجاء العالم كافة.
تحقق النجاح في الجزء الأول من المشروع، وتم تأمين جسر جوي مفتوح وتجميع "الجهاديين" في ساحة واحدة تمهيداً لاحتوائهم ثم القضاء عليهم، بينما لم يستطع "الإسلام السياسي" - المتمثل بـ"الإخوان المسلمين" بقيادة قطر وتركيا - أن يفي بالجزء المتعلق به من الاتفاق، وذلك بأن يحقق سيطرة تامة على الأرض، وعلى الحكم في البلدان التي شهدت تغييرات ثورية، تؤهّله لعملية الاحتواء ثم القضاء على العناصر المتطرفة في مجتمعاته. وهكذا بات الغرب اليوم أمام مأزق حقيقي، فقد تمّ تجميع العناصر الإرهابية في منطقة جغرافية محاذية لأوروبا، التي تعيش قلقاً كبيراً من عودتهم أو إمكانية تغلغلهم لديها، وباتت المشكلة: مَنْ سيقوم بتحقيق الجزء الثاني من المشروع، أي القضاء على هذا "الإرهاب التكفيري"، بعدما فشل "الإسلام السياسي الإخواني" في الوفاء بوعوده، وسقط مشروعه الإمبراطوري المدعوم من الغرب في المنطقة ككل؟.
بعد الوصول إلى هذا المأزق، حاولت إيران أن تدفع أردوغان لأن يلتف على سياسته السورية ويتعهد بالاستمرار في القيام بهذا الدور بالتعاون مع بشار الأسد، وأن يحكم الأتراك العالم السنّي تحت مسمى هذه "الوظيفة الدولية"، لكن أردوغان كان أعجز من أن يلتف على سياسته السورية التي حرق فيها كل الجسور وكل إمكانية للعودة عنها، علماً أن التراجع قد يكلّفه مستقبله السياسي في الداخل.
أمام هذا الواقع، كانت السعودية أمام خيارين: القبول بالمهمة وحكم العالم الإسلامي بالشراكة مع إيران، أو اعتماد سياسة الرفض والتصدي للتوجهات الأميركية، والتي كان من الممكن أن تؤدي إلى تغييرات داخل المملكة نفسها، وقد اختارت السعودية - كما يبدو - الخيار العقلاني الأنسب، أي المساهمة في الاحتواء، تمهيداً لانخراطها في المرحلة الثانية التي ستأتي بعد التسوية: المشاركة في "الحملة الدولية على الإرهاب".
من هنا، وإن صحّ هذا التصور، ستكون المرحلة المقبلة إقليمياً هي مرحلة بدء تفاهمات سعودية - إيرانية، ستترجم نفسها في ساحات عدة، منها لبنان والبحرين واليمن، على أن تمتد إلى العراق وسوريا في مرحلة لاحقة، حين ينضج التفاهم الروسي - الأميركي.
أما في لبنان فستكون مرحلة قيام "تيار المستقبل" باحتواء العناصر "التكفيرية المتطرفة"، ومحاربتها في بيئته وفي لبنان بشكل عام، ولـ"المستقبل" مصلحة مزدوجة في ذلك: التخلص من العناصر الهدّامة التي لن تتوانى عن تكفير "المستقبليين" قبل غيرهم، والحد من نفوذها في بيئته على أبواب الانتخابات النيابية، والثانية أن يُظهر نفسه قادراً على السيطرة الفعلية وتخليص اللبنانيين من هذه الأخطار الأمنية، وإعادة تكريس نفسه ضمن معادلة "الاعتدال السنّي" الذي دفع اللبنانيون أثماناً باهظة نتيجة إقصائه عن الحكم بالطريقة التي حصلت سابقاً.
جريدة "الإنشاء" طرابلس – لبنان 21/2/2014