شرق أوسط جديد بغلبة طائفية
محمود الريماوي - كاتب أردني
بثينة شعبان مستشارة الرئيس السوري بشار الأسد صرفت جلّ وقتها خلال إقامتها في مدينة مونترو السويسرية، بالحديث إلى محطات تلفزة ووسائل إعلام غربية، وذلك بعد غياب مديد. وعلى وقع إسقاط براميل متفجرة من طائرات روسية على حلب شبه المدمرة، ومع استخدام رصاص مسموم من طرف جيش الأسد وميليشيات "حزب الله" في حمص التي باتت أنقاضاً، رفعت السيدة عقيرتها ضد الإرهاب. والإرهاب الذي تقصده هو الذي تمارسه منظمة "دولة العراق والشام الإسلامية" (داعش)، لكن للمفارقة فإن قوات "الجيش الحر" لا قوات النظام هي التي تقاتل هذا التنظيم، وقد توجه صحفي سوري شاب (رامي الجراح) بالسؤال 16 مرة لوزير الإعلام عمران الزعبي حول سبب امتناع جيش النظام عن مواجهة "داعش"، لكن الوزير وقف مبهوتاً أمام السؤال المتكرر يكرره مواطنه الشاب في تسجيل مصور وناطق ذاع على نطاق واسع على شبكة الإنترنت. "داعش| هي من المنظمات التي إما اخترقها النظام أو سهّل تشكيلها. ويستذكر المرء بأنه في خريف 2011 أطلقت السلطات السورية سراح مئات الإسلاميين المتشددين من المعتقلات، فيما دأبت على اعتقال معارضين وطنيين ديمقراطيين مدنيين.
قبل اندلاع الانتفاضة السورية بسنتين على الأقل، دأبت حكومة نوري المالكي في بغداد على الشكوى من تسرب مقاتلين إسلاميين من سوريا إلى أراضيها. واشتكت في ذلك إلى الحكومة السورية التي كانت تجيب: "حدودنا طويلة معكم، اضبطوا حدودكم". وصدرت ما تشبه اتهامات صريحة من بغداد وواشنطن بأن دمشق تسهّل انتقال هؤلاء إلى الأراضي العراقية.
الآن وفي أجواء مؤتمر "جنيف 2" فإن السيدة المستشارة بثينة شعبان تحذر الحكومة العراقية من إرهابيين قد يتسللون إلى أراضيها من سوريا، ولا تكتفي بذلك بل تلقي ظلالاً على دور "للحزب الإسلامي" في العراق (الذي كان يقوده نائب الرئيس العراقي المُقال طارق الهاشمي) في الإرهاب. والرسالة هنا واضحة وتتساوق مع طروحات المالكي حول الإرهاب في بلاده الذي يأتي من مصدر واحد: "المناطق السنية والقيادات السياسية السنية". ومعلوم أن أطرافاً شيعية وسنية تشارك في أعمال الإرهاب الأعمى في العراق، وسبق للمالكي أن أقرّ بوجود تنظيمات شيعية تمارس الإرهاب ضد المدنيين، وذلك في غمرة خلافاته مع "الزعيم" مقتدى الصدر.
الآن تغير الخطاب. المالكي يرى الإرهاب منحصراً في منطقة الأنبار السنية، ويرد التحية لبثينة شعبان فيأخذ على الإدارة الأميركية استعدادها لتسليح المعارضة السورية بأسلحة خفيفة معتبراً أن ذلك يخدم الإرهاب. هكذا أصبحت كل معارضة سورية بما فيها المعتدلة والمدنية تصنف كإرهاب لدى المالكي، متطابقاً في ذلك مع الخطاب الرسمي في دمشق، وبهذا وجد المالكي مساحة التقاء واسعة مع دمشق "البعثية"، وهو الذي ظل يعتبر "اجتثاث البعث" واحداً من أعز الأهداف إلى قلبه. لكن بما أن النزال الآن يتخذ وجهة طائفية في المنطقة، فلا بأس من الالتقاء مع "البعث العلوي" في دمشق، ضد كل طرف سني، ولا بأس من تسهيل مرور عشر ميليشيات عراقية على الأقل، على رأسها "لواء أبي الفضل العباس" إلى دمشق، لتقويض ما لم يتم تقويضه في مناطق السنة السوريين، والفتك بمن لم يتم الفتك بهم بعد في ريف دمشق وحمص وحماة وحلب ودير الزور ودرعا، حيث الكثافة السنية الأعلى في سوريا.
من إيران إلى روسيا ومن العراق إلى سوريا و"حزب الله"، يجري شن معركة يطلقون عليها الحرب ضد "التكفيريين". وهي حرب تضمن استمرار وجود نظام دمشق في الاعتبار الأول، بتغذية ذخيرته الأيديولوجية والدعائية، ناهيك عن الدعم المالي واللوجستي والتسليحي والدبلوماسي له. وتشكل نقطة لقاء مأمولة مع الغرب، الذي يتطير من الإرهاب "السني". وبما أن إيران لا تسمح بأية حرية حركة للإسلام السني وتمنع بناء مساجد له، وبما أن حرب موسكو هي مع الشيشان والقوقاز السنة، بذلك تنعقد مساحة لقاء أيديولوجي واسعة بين الطرفين، لاستهداف الأكثرية السنية في العالم العربي ووصمها بالإرهاب. وتجري خلال ذلك عملية إعادة هندسة استراتيجية للمنطقة يتم فيها تسييد رموز من الطائفة الأخرى، ومنحها كامل الثقة، حتى لو كان التطرف والتكفير هو من الثمار السامة لغلاة الطائفيين لأي طائفة انتموا.
"حزب الله"
في لبنان الذي يضم مقاتلين ينتمون لطائفة واحدة، ويتخذ من "ولاية الفقيه" مرجعاً
عقائدياً له، لا يتردد في استباحة سوريا والقتال جنباً إلى جنب مع قوات النظام ضد
المناطق السنية ابتداء من حمص مروراً بحماة وحلب ودير الوزر ودرعا وريف دمشق،
ويعتبر أن معركته هذه هي "معركة وجود"، وهو وصف لم يطلقه أبداً هذا الحزب على
مقاومته للاحتلال "الاسرائيلي"، وهي مقاومة متوقفة كلياً منذ 15 أغسطس 2006 بحكم
القرار الدولي الذي وضع قوات للأمم المتحدة (يونفيل) في جنوب لبنان.
ليس مصادفة أن لا تعبأ موسكو وطهران وبغداد ودمشق و"حزب الله" باقتلاع أربعة ملايين سوري من وطنهم على أيدي نظامهم، فهؤلاء في غالبيتهم الغالبة من السوريين السنة. وليس من باب العجب أن قيادة "حزب الله" تكاد تنكر وجود الشعب السوري، ولا تتردد في قتال هذا الشعب واستباحة وطنه، كي يبقى النظام الدموي غير السني رابضاً على صدر هذا الشعب الذي يشكل السنّة أكثر من سبعين بالمئة من تعداده.
قد لا يصلح
البُعد الطائفي وحده لتفسير مجريات الأمور، فثمة المصالح الملموسة التي تجمع إيران
وروسيا والعراق وسوريا ولبنان، التي تضم النفط وصادرات الأسلحة والموقع الاستراتيجي
لمنافسة الحلف الأميركي و"الإسرائيلي"، من أجل "إقامة شرق أوسط جديد" بشّر به غير
مرة وليد المعلم وزير خارجية دمشق، معاكس لذلك الذي كانت تبشر به واشنطن في عهد بوش
الابن، لكنه يلتقي معه في سحق الشعوب وتفتيت النسيج الاجتماعي، وفي طابعه التدخلي
ضد دول أخرى (وهو الدور الذي لعبته على الدوام منذ نحو ربع قرن دمشق وطهران) ويشنّ
حرباً كلامية على "تل أبيب" ولكن بتهادن فعلي وأبدي مع هذه الأخيرة.
غير أن للبعد الطائفي أهمية كبيرة في التجييش داخل العراق ولبنان وسوريا، من أجل تحشيد طائفة بعينها وطمس الجوامع الوطنية التي تجمعها بمكونات شعبها، ومن أجل تجريف قضية الديمقراطية وطرح بناء الدولة العصرية جانباً وتخويفها من الطائفة الأخرى التي حكمت البلاد طويلاً، وحسب هذا المنظور المقيت فإن ما تخسره الطائفة المستهدفة وبالذات في مضمار حرمانها من رموز وقيادات سياسية ووصمها بالإرهاب أو توفير بيئة حاضنة له، يشكل ربحاً صافياً للطائفة الصاعدة التي يتبوأ أشخاص منها سدّة القيادة أوالغلبة في العراق وسوريا ولبنان على السواء.
"العرب" لندن 31/1/2014