أزمة أوكرانيا ليست بسيطة

مروان اسكندر

أوكرانيا هي البلد الذي يستعمل الطاقة في مجالات الانتاج بتفريط كبير. فالدراسات المقارنة الدولية تبين ان استهلاك الطاقة لكل وحدة انتاج فيها هي الأعلى في العالم.

وأوكرانيا تحتاج إلى الغاز الروسي لتشغيل مصانعها، ويمكنها الاعتماد إلى حد ما على المفاعلات النووية، علماً أنها واجهت كارثة على هذا الصعيد عام 1986 (تفجر مفاعل تشرنوبيل).

إضافة إلى حاجاتها من الغاز، وهي مدينة بمبالغ كبيرة لمشتريات غاز سابقة من روسيا، تمتد خطوط لتصدير الغاز الروسي إلى دول أوروبية عبر أوكرانيا، منها بولونيا، كما لإيصال كميات من الغاز الروسي إلى تركيا التي تعتمد عليه لكفاية حاجاتها إلى حد بعيد.

وتعتمد روسيا على قاعدة لها في مرفأ سيباستوبول بشبه جزيرة القرم بجنوب أوكرانيا على البحر الأسود لقسم كبير من أسطولها البحري، وذلك بموجب اتفاق بين البلدين مدّد في عهد الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش. كما أن حماقة الجورجيين بتحدي روسيا صيف 2008 والتعدي على إقليم أبخازيا، أتاحا لروسيا إنشاء قاعدة بحرية أو أكثر في أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية على البحر الأسود، بحيث تتمكن روسيا من التخلي عن مرفأ سيباستوبول وتسهيلاته مستقبلا إذا اقتضى الأمر.

وتعود الروابط بين روسيا وأوكرانيا تاريخياً إلى مئات السنين. فالكنيسة الأرثوذكسية التي تمثل القاعدة الدينية الرئيسية في روسيا تمركزت في محيط كييف، بعد احتلال العثمانيين القسطنطينية أواسط القرن الخامس عشر، ومن كييف توسعت الكنيسة في أنحاء روسيا.

ومعلومة أخرى عن الروابط الأوكرانية – الروسية قلما يعرفها المتابعون لشؤون أوكرانيا، أن شبه جزيرة القرم أعادها نيكيتا خروشوف إلى أوكرانيا عام 1954، وفي ذلك الوقت كان امتداد الاتحاد السوفياتي يشمل جميع بلدان أوروبا الشرقية، ولا حاجة إلى التفريق بين ظروفها.

أخيراً، جدير بالذكر أن غالبية سكان المناطق الشرقية والجنوبية من أوكرانيا من أصل روسي، واللغة الروسية يستعملها في المدارس والأعمال والمسرح 40 في المئة من سكان أوكرانيا.

هذه الصورة تبين أن إبعاد أوكرانيا عن روسيا، بالغاً ما بلغت حماسة المتظاهرين، عملية غير بسيطة، وعندما بدأت أحداث الاعتصام والاحتجاج على يانوكوفيتش لأنه تمنع عن إنجاز اتفاق شركة الاتحاد الأوروبي قبل أربعة أشهر، كانت عروض المساعدة المالية من السوق الأوروبية على مستوى 650 مليون أورو، ومن صندوق النقد الدولي على مستوى 400 مليون دولار، وهذه المبالغ لم تكن كافية لإيفاء نسبة ضئيلة من ديون أوكرانيا لروسيا. فخلال أسابيع معدودة استهلكت أوكرانيا تسهيلات روسية بقيمة ثلاثة مليارات دولار.

لا شك في أن الغربيين أرادوا إحراج روسيا نتيجة التظاهرات والمطالبات التي تصاعدت أسبوعاً بعد أسبوع، وهنالك هدف أبعد يتمثل في الحد من قدرة روسيا على تصدير الغاز بواسطة أنابيب تمتد عبر أوكرانيا، لكن هذا الأمر صعب التحقيق لأن الدولة الأولى المتضررة ستكون أوكرانيا، ذلك أن استهلاكها المفرط للغاز ضروري لحفظ انتاجها وتأمين التدفئة في المنازل خلال أشهر الشتاء القاسية، ولا بديل من الغاز الروسي لأوكرانيا في المستقبل المنظور.

إن السعي إلى ضرب المصالح الروسية في تصدير الغاز معروف أنه من أهداف السياسة الأميركية، وقد قوي هذا الاتجاه مع زيادة إنتاج الغاز في الولايات المتحدة من صخور الطفال وكفاية الحاجات المحلية لاستهلاك الغاز من الإنتاج الأميركي، وبدء التحضير لإنجاز مرافق تسييل الغاز وتصديره بدءاً من سنة 2017.

في مقابل هذه التوجهات، أنجزت روسيا، بالتعاون مع ألمانيا، خطاً لنقل الغاز من شمال غرب روسيا إلى ألمانيا تحت البحر، ورئيس الشركة المشرفة على تشغيل الخط هو المستشار الألماني السابق غيرهارد شرودر، كما في الإمكان زيادة طاقة تصدير الخط وتمديده إلى بولونيا. ومن الخطوات التي تستطيع روسيا اعتمادها لمواجهة محاولات ضبط قدرتها على التصدير، زيادة صادراتها إلى الشرق الأقصى، وخصوصاً إلى الصين، وقد عقدت اتفاقات لإمداد الصين بكميات كبيرة، وبدأ العمل على مدّ خطوط الغاز لتأمين الشحنات لهذا البلد في غضون سنتين على الأكثر.

من المؤكد أن روسيا منزعجة من التطورات في أوكرانيا، وأنها ستطالب بمستحقاتها عن صادرات سابقة، وإذا استمرت محاولات تهميش دورها في أوكرانيا قد تتمنع عن تصدير الغاز إليها وعبرها إلى بعض البلدان الأوروبية، وستكون هنالك خسارة لروسيا لكن الخسارة الكبرى والمعقدة ستكون لأوكرانيا.

وللأسباب المشار إليها، تصر القيادة المؤقتة الجديدة على تأليف حكومة يتمثل فيها الجانب المؤازر لروسيا، كما أن الممثلة العليا للاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون أكدت ضرورة حفظ العلاقات بين مكونات أوكرانيا وامتنعت في الوقت نفسه عن التزام تحديد حجم المعونة المالية المطلوبة لأوكرانيا. ووزير خارجية روسيا نبه إلى ضرورة الابتعاد عن اعتبار أوكرانيا ملتصقة بأوروبا دون روسيا.

يطالب الوزير المتولي شؤون المال في أوكرانيا بمعونة على مستوى 35 مليار دولار لإنقاذ البلد من الإفلاس، ومن المؤكد أن هذه المساعدة لن تأتي من الاتحاد الأوروبي، فالأرقام تتجاوز استعداد الدول الأوروبية الرئيسية للمساعدة، وأن صندوق النقد الدولي لن يقدم مساعدات تفوق مليارين إلى ثلاثة مليارات دولار وبشروط معقدة.

إن الأزمة في أوكرانيا مرشحة للاستمرار والتوسع ولا يمكن أن تحل من دون تعاون بين أوروبا وروسيا والاعتماد على روسيا إلى حد أبعد. لكن روسيا لن تفتح صناديقها ما لم تحظ بشروط سياسية توفر لها طمأنينة إلى استرداد أموال لها، وتكريس استعمال قواعد بحرية، ولعل أفضل دليل على توجه أوكرانيا نحو مهادنة روسيا يتمثل في ترشيح بطل العالم السابق للملاكمة فيتالي كليتشكو للرئاسة، في حين أن يوليا تيموشنكو التي أطلقت والتي حكم عليها بالسجن بتهمة ابتزاز 220 مليون دولار من روسيا، باتت شبه مغيبة عن التقدم إلى مركز قيادي في أوكرانيا المعذبة والتي ستنقضي سنوات قبل قيامها من جديد.

"النهار" بيروت 28/2/2014