أردوغان من تركيا العميقة إلى تركيا الخفية
لا شك أن المرحلة المقبلة ستضع حداً لطموحات أردوغان 'السلطانية' وتجبره على إعادة قراءة الخريطة الداخلية.
محمد قواص
في سريالية عجيبية نشهدُ تصدّعَ حكاية رجب طيّب أردوغان وصحبه. لا شيء كان يوحي بأن ظلالاً سوف تُخفتُ أنوار "العدالة والتنمية"، ولا شيء كان يقفُ حائلاً دون عثمانية جديدة صاعدة. لكن في لحظة عجيبة تقاطع الخارج مع الداخل ليعلن بداية سكون حكاية اقتحمت الأتاتوركية، فيما يبدو أنه انقلاب السحر على الساحر.
تفسّرُ وصفاتٌ متتالية سرّ الظاهرة الأردوغانية في تركيا، تسلل "حزبُ العدالة والتنمية" من عباءة الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان، على ما يشبه الانشقاق وتبنى خطاباً حاذقاً ينأى عن المضامين الدينية الأربكانية ليتماهى برشاقة مع القيم الأتاتوركية لتركيا العلمانية. بدا الحزبُ حاجة للأتراك فمنحوه الثقة تلو الثقة، فيما لم يشكّل الهبوط المظلي للأردوغانية تحدّ فوري لتركيا العميقة.
تقدّمت الأردوغانية متصالحةً مع تركيا التاريخ والواقع، وهو أمرٌ ندرك أهميته في تضاده مع تجربة الإخوان في مصر، حيث تصادموا فوراً مع مصر التاريخ والواقع، فتم لفظهم في عام واحد. لم تمسّ الأردوغانية أُسس تركيا العميقة وذراعها العسكرية، إلا بعد تراكم من “التمكين” أتاحَ إزاحة رؤوسٍ وتدجينَ مؤسسة الجيش وباقي أجهزة الدولة.
اعتمدَ أردوغان وحزبه على الاقتصاد رافعةً لمشروعية الصعود والبقاء. انتقلت تركيا إلى مصاف الاقتصادات الصاعدة، وبدا المشروع الأردوغاني مطالعةً اقتصادية بحتة تملي شروطها على مفاعيل السياسة. أذعنت تركيا برمتها للإنجازات فسقط المحافظون القوميون الأتاتوركيون أمام مروحة الأرقام والنسب والمؤشّرات الصاعدة.
في سرَ الأردوغانية أيضا، سياسة خارجية تُحركها فلسفة الاقتصاد. بدت الهمّة لنيل العضوية الأوروبية شهادة حسن سلوك بتمسك أنقرة الأردوغانية بخياراتها الغربية، كما بدا الانفتاح على أرمينيا في الخارج كما الانفتاح على الأكراد في الداخل، أوراقا رابحة في تلميع صورة أردوغان وحزبه في المحافل الدولية، فيما تولى "تصفير" المشاكل، وفق مذهب وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو، توفير ترياق تركيا للاستقرار والسلام والازدهار.
من أسرار الصعود تنبعُ أسباب الانزلاقات المتوالية. منحَ الاتراكُ "حزب العدالة والتنمية" رأسمالاً شعبياً استثمره الحكام الجدد في العالم. على أن هذا الداخل هو الذي ينتفض هذه الأيام على الظاهرة الأردوغانية وينقلها من وعكة إلى أخرى قبل إعلان الترجل النهائي عن عرش أنقرة. ابتلع منطق الاقتصاد والأعمال حكمة السياسة إلى أن انفجرت أعراض التورم في انتفاضة (غازي بارك) في منطقة (تقسيم) في اسطنبول. وإذا ما كان الاقتصاد قد برر للأردوغانية البقاء والصمود واختراق الستاتيكو الأتاتوركي، فإن تراجع المؤشرات الاقتصادية (لاسيما الليرة والبورصة) بسبب فضائح الفساد، ستقود تركيا إلى لفظ جنينها الأردوغاني.
شوّهت حناجر المتظاهرين في (تقسيم) الصورة المثالية البرّاقة للحزب الحاكم. أزاح صراخ الغضب في الشارع قناعاً أظهر الوجه الآخر للأردوغانية الغارق في سياسة المشاريع الأسمنتية الملتبسة، فتقيأ الورم قيح فضائح الفساد الأخيرة.
لم تعدْ الخلفية الإسلامية لحزب أردوغان ضماناً لنزاهةً أو طهارةً أخلاقية. بات الحزب ورشة سلطة مع ما يتواكب مع ذلك، تقليدياً، من ظواهر نفوذ واستغلال للنفوذ وفساد. ظهر أن الحزب بات جهازاً كبيراً مُسخّراً لطموحات زعيمه، يعمل في السياسة والتشريع لشقّ الطريق أمام عبور أردوغان نحو رئاسة فوق العادة في الانتخابات المقبلة.
على أن تصدّعات الداخل سبقتها خيبات متراكمة في السياسة الخارجية. تحللت فلسفة "التصفير" الأوغلية (نسبة إلى أوغلو) بعد جمود في الاختراقين الأرمني والأوروبي، وخفتت آمال أردوغان في التعويل على نفوذ "شرق أوسطي" توفره مصر الإخوان أو سوريا ما بعد الأسد. بين ليلة وضحاها انهارت عثمانية جديدة كانت تُطل برشاقة وثقة. تراجع أردوغان عن حملته ضد نظام المالكي في العراق وهرول مصالحا.
بموازاة ذلك هرع يعيد الوصل مع طهران التي يتقدم العالم نحوها منذ "جنيف" الشهير. لكن الأزمة الراهنة التي طرأت على أهل الحكم في تركيا تكشفُ أيضاً سراً آخر من أسرار المنعة الأردوغانية. بدت الأزمة ثمرة صراع بين قوى الحكم الأمامية والخلفية، المعلنة والمضمرة، بين تيارين إسلاميين تعايشاً وتنافراً، على شاكلة التواطؤ والتناقض اللذين جمعا وفرقا الجنرال عمر حسن البشير والشيخ حسن الترابي في انقلاب "الإنقاذ" في السودان.
وإذا ما كانت الحركة الإسلامية ما بعد الأربكانية هي التي تولّت الحكم في تركيا، فإن تصادم تياري تلك الحركة بزعامة أردوغان في أنقرة والشيخ فتح الله غولن في منفاه الاختياري في بنسلفانيا بالولايات المتحدة، تكشف الخلطة الخفيّة للحكم، كما تدّشن مرحلة الأفول والانحطاط. وقد يمثل تصادم الإسلاميين في تركيا حلقة من سياق سُجل مثله بين "الإخوان" و"حزب النور" في مصر، أو بين "النهضة" و"أنصار الشريعة" في تونس، وحتى تصادم فرق الإسلاميين في سوريا.
يستنتج المتابعون للشأن التركي أن الصدام كان حتمياً، وهو مآل طبيعي لمنهج "التمكين" الذي اعتمده أردوغان. نجحَ الرجل منذ عام 2002 في تحييد وشل كافة التشكلات المنظمة من قوى وتيارات وجيش، وبات عليه لزاماً التخلّص من آخر تلك التشكلات المتمثّلة بشبكة غولن المتغلغلة هذا المرة في دولة أردوغان العميقة.
الحرب سجال ومعارك، ابتدأت بقطع أردوغان الشريان المالي عن المدارس الخاصة التابعة لشبكة غولن (حزمت أو "خدمة" بالعربية). كان الردّ موجعاً بالكشف عن شبكة فساد أطاحت بوزراء وما برحت تحبو وتطالب برحيل أردوغان. ولأن الحرب كرّ وفر، فمن المبكر استشراف مآلاتها.
وعلى منوال أنظمة كثيرة في المنطقة يضجّرنا رئيس الوزراء التركي بتعليق شماعة أزمته على مشجب الخارج ومؤامراته. هكذا يرى جاراه الأسد وخامنئي أزمتهما، كما رأى مبارك والقذافي وبن علي وعلي عبد الله صالح أزماتهم قبل ذلك. على أنه إذا ما كان هذا الخارج (الإقليمي والدولي) يسعى فعلاً أو لا يمانع بإزاحة الطاقم الحاكم لتركيا، فهذا يفاقم من معضلة أردوغان ويسلط المجهر على تفكك دعائمه الخارجية ولفظ لزوميته من قبل الأسس الإستراتيجية لتركيا الحديثة.
قد لا تكون نهاية الحلم الأردوغاني فورية صاعقة. الرجل يمتلك أوراقاً كثيرة تتيح له المناورة والصمود، يمارس بإرباك نفوذا لاستعادة المبادرة من مثل الضغط على النائب العام، أو عدم تنفيذ الشرطة لمذكرات اعتقال متهمين، أو تسريح المئات من قياداتها.
ينعطف أردوغان بانتهازية رشيقة باتجاه التودد للجيش والأتاتوركيين بالتلميح بالموافقة على إعادة محاكمة الضباط الذين أدينوا بمحاولة الانقلاب (أمر قد يشرّع أبواب انتقام المؤسسة العسكرية وإعادة الاعتبار لها مجدداً). وعليه فلاشك أن المرحلة المقبلة تضع حداً لطموحات أردوغان "السلطانية" وتجبره على إعادة قراءة الخريطة الداخلية، وما يعنيه ذلك من توسيع الشراكة (وإنهاء الاحتكار) في الحكم، كما قراءة الخريطة الخارجية، وما أعقدها منذ سقوط الإخوان وشلّ أسلحة الدمار الشامل في سوريا وإيران.
خروج المراقب من قلب الحدث وتحليقه فوق المنطقة برمتها قد يقود إلى فهم الحدث التركي من منظار التحولات الكبرى التي يُعمل عليها في الشرق الأوسط.، قد لا ينحصرُ أمر انقضاض غولن على أردوغان بمماحكة أبناء البيت الواحد فقط، وقد يكون الأمرُ جزءا من كل سنشهدُ مفاعيله تباعاً (خصوصا إذا ما تأملنا العلاقة الحميمة والتاريخية بين غولن وواشنطن). ما كشفته جماعة غولن يعني أنهم كانوا يعرفون قضايا الفساد ويتعايشون معها ولم ينتفضوا عليها لأسباب أخلاقية، بل انتقاماً من سلطة عاجلتهم بتدابير مقلقة. وحدهم الكماليون يبتسمون هذه الأيام بخبث علّ صراع الإخوة يعيد لهم ملكاً فقدوه.
* صحافي وكاتب سياسي لبناني
"العرب" لندن 10/1/2014