استنفار تصفوي
عبد اللطيف مهنا
يبشِّر
جون كيري، أينما حل، باقتراب موعد ميلاد اتفاق إطاره لتصفية القضية الفلسطينية،
ويشيع أينما وصل، ومن خلال من يلتقيهم، وآخرها على هوامش ملتقى دافوس، أنه عاقد
العزم على تقديمه وخلال أسابيع معدودة. ووفق التسريبات المدروسة، وبالونات الاختبار
الموجَّهة، والقنابل الدخانية الاعتراضية التمويهية، والتي تسهم في اطلاقها كافة
أطراف البازار التصفوي، الأميركية والصهيونية والأوسلوية، وكل لأسبابه، فلعل كل ما
تبقى حائلاً دون تصاعد دخان العم سام الأبيض ما هو إلا بقية من رتوش تتعلق بكيفية
الإخراج ودواعي تسهيل عملية ابتلاع مولود السفاح التصفوي، أو ما يدور الآن النقاش،
مع بعض الخلافات، حول تفاصيله. وحيث تصف صحيفة "هآرتس" الصهيونية الحاوي الأميركي
الجاهد لإخراج فيلمه التصفوي بـ"البلدوزر الذي لا ينوي التوقف"، فالمتضح حتى الآن
أن ما يستهدفه هذا البلدوزر، أو ما سينقشع عنه غبار غامض إطاره المنتظر، هو لا
يخرج، حسب الصحيفة، عن ما "يحدد المبادىء الأساسية لحل القضايا الجوهرية، والتي
وفقاً له سوف تستمر المفاوضات" بين الصهاينة والأوسلويين الفلسطينيين.
ثوابت هذه المبادىء الكيروية هى ما يدور حولها راهناً جدل صهيوني حامي الوطيس، وتتربع على رأس قائمتها "يهودية الدولة". يليها التعاون الأمني، أو مسألة بقاء المحتلين في الأغوار، أم تحوله إلى مهمة ثلاثية أميركية صهيونية فلسطينية، أم اطلسية وفقما يقترحه رئيس السلطة. كما وإن من مسلمات اطار كيري بقاء ما تعرف بالكتل الاستعمارية التهويدية الكبرى، وبذا فهى خارج ما يدور راهناً من جدل داخلي صهيوني يتركز حول رفض ترك الصغرى أو الهامشية تحت السيادة الفلسطينية. ثم يأتي تبادل الأراضي، أو ما يعني أن يتاح للصهاينة التخلص من فلسطينيي المثلث. الأمر الذي يضعنا أمام ما ستتكشف عنه حصيلة الاعيب الحاوي كيري، أي دويلة مسخ، منزوعة السلاح، يحرَّم عليها عقد المعاهدات مع من يعتبرهم الصهاينة اعداءً لهم، وإذ هى بلا أجواء، فحدودها تحت إشراف المحتلين. أما مسألة القدس فباتت بالنسبة للصهاينة خارج التفاوض، باستثناء مسألة بحث كيفية ادارة المزارات المقدسة. كما واستعيض عن حق العودة بتوطين اللاجئين حيث هم، أو أخذهم إلى مهاجر جديدة، مع بحث مسألة تعويضهم، والسماح لقلة منهم بالعودة إلى "أوسلوستان"، وأقل من القلة ومن فئة ارذل العمر العودة إلى المحتل في العام 1948. والسؤال هنا هو، ما الذي لا يجعل من عملية إخراج كيري لفيلمه التصفوي وعرضه أكثر من واردة، أو لا يسهِّل عليه عملية فرضة؟! هل في الراهن العربي ما يحول دون ذلك؟!
إنه إلى جانب بادي الاندلاق التسووي الأوسلوي المتدثر بتغطية من أغلب النظام العربي الرسمي، فالمشهد العربي برمته لا يبشر بخير في مثل هذه المرحلة الأشد بلاءً وخطورةً في تاريخ الأمة. العراق يتمزق، وليبيا تتقطع، وسورية تُذبح، واليمن ينزف، ومصر غرقى في لجة من أزماتها المستعصية الأخطر. ويزيد من كارثية المرحلة التي تعيشها هذه الأمة أن سموم رياح الفتن الطائفية الخبيثة تُنفث في أطنابها، وعليه. فلا أفضل منها مرحلةً مناسبةً لأعدائها للإجهاز على قضيتها المركزية في فلسطين، لا سيما وأن الأوسلويين في سبيلهم للتخلى عن ما تبقى لديهم من ورقة التوت، وفصائل المقاومة الفلسطينية تغفو أسيرة لعجزها وإدمان قلة حولها القاتلة. لا يبشِّر بخير أن كافة اطراف التصفية هى راهنا تشهد حالة من الاستنفار التصفوي لاقتناص فرصتها السانحة، استنفار تعكسه استماتات في محاولة تحسين الشروط، وتفضحه التصريحات، إما المتناقضة بحساب، أو المتراوحة ما بين البالونات الاختبارية والتمويهية والاستهلاكية.
الاستنفار
الصهيوني يتجلى في راهن الجدل والتراشق بشأن احتمالات وجوب التخلي عن بعض
المستعمرات الهامشية حتى مع بقاء يهودها، أو قول (تسبي ليفني) رئيسة وفدهم المفاوض
مع الأوسلويين إن "معظم الإسرائيليين موجودون في الكتل (تعني المستعمرات الكبرى
التي ستضم للكيان الغاصب)، وهم سيبقون في بيوتهم، بالنسبة للباقين (أي في
المستعمرات الهامشية) سيتعين علينا أن ندير حواراً" بشأنهم. وهو جدل وتراشق وصل
لدرجة حدت بالوزير (نفتالي بينيت)، زعيم حزب "البيت اليهودي" للتحذير من "إن كل من
يعتقد أنه يمكن لليهود العيش تحت سيادة أبو مازن يضعضع الأسس التي أقيمت عليها دولة
اسرائيل ويضع علامة استفهام على وجودنا حتى في تل أبيب"!
أما
عربياً، فتكفي الإشارة إلى ما يعم الأردن هذه الأيام من أحاديث التحضيرات لمرحلة ما
بعد اتفاق اطاركيري والدور الأردني فيها، وصولاً إلى حسابات التعويضات، وحكايات
التوطين، ونبش تليد الخيار الأردني، وكذا الإتحاد الكونفدرالي مع منتج كيري،
فبينولكس بيرز الثلاثي الشهير، بل وهناك من الأنباء التي تواردت عن تشكيل ادارة في
الديوان الملكي مهمتها ملف اللاجئين!
وفلسطينياً، تكفي الإحالة إلى قول رئيس السلطة، إبان مشاركته عبر الفيديو في المؤتمر السنوي لـ"معهد الدراسات الأمنية" في تل أبيب، وكردٍ منه على تشكيك ليعلون في نواياه السلمية، إن ما ستسفر عنه المفاوضات من حل "سيأتي لاسرائيل باعتراف 57 دولة عربية وإسلامية، اعتراف واضح وصريح وديبلوماسي بين هذه الدول واسرائيل". وفيما يتعلق بأمن الكيان، قال بأن قوات السلطة هى "مكرَسة لأداء واجبها لمنع تهريب السلاح ومنع استخدامه ... وإنه ليس سراً أن هذا يحدث بالتعاون الكامل مع أجهزة "الأمن الإسرائيلية" والأميركية"!!
...الأمة مغيَّبة، وقضيتها على مرمى حجر من التصفية، ورغم هول الوقع وفداحة معيقاته، فهل لنا سوى انتظار تلكم اللحظة التي سوف يقول فيها شعب الشهداء والانتفاضات المتلاحقة كلمته التي لم يقلها بعد؟؟!!
1/2/2013