أوكرانيا تهدئة مؤقتة أم خيارات مؤجلة؟!
عبد اللطيف مهنا
لوهلة، بدا وكأنما الأزمة الأوكرانية تبلغ ذروتها. يفر رئيس الجمهورية من عاصمته مدحوراً، وتعود زعيمة المعارضة من سجنها إلى ميدان الاستقلال معلنةً انتصارها. وهى وإن كانت المعركة التي لازالت تحبو في بداياتها، إلا أن الغرب بدا، ولوهلة أيضاً، المزهو بما يعده انتصاره الأوكراني. وما بدا حتى الآن دفع كل من تابعه إلى طرح سؤال لعله الموضوعي بالنسبة لمعروف المواقف والستراتيجيات الجيو0سياسية الروسية وهو التالي: وماذا عن الرد الروسي؟ ذلك لأن من مسلمات الحالة الأوكرانية بالذات أن الروس لا يمتلكون ترف التسليم بالهزيمة، أو هم لن يحتملوا انتصاراً غربياً عليهم فيها، وهذا لأسباب كنا قد عددناها في مقال سابق، تبدأ بالتاريخي وتنتهي بأمنهم، هذا الذي يتهدده وصول (الناتو) إلى ضواحيهم التي يرنو اليها النزوع الأوروبي للتوسع شرقاً. هنا ما من مزاح لديهم، لكنما وفجأة، بدا وكأنما هناك في مدلهم راهن الأزمة ثمة بارق من جنوح إلى التهدئة من قبل كلا الطرفين، الروسي والغربي معاً، حيث هناك ما بات يوحي بتلمس ما لحلول تهدوية مؤقتة، ونشدد على مؤقتة، أو لنقل بما يتفق مع المأثور اللبناني الشهير "اللا غالب واللامغلوب". وهنا يداهمنا سؤال آخر هو، ولماذا؟
الجواب والسريع هنا هو، لأن التمادي الغربي في أوكرانيا والرد الروسي عليه لا يعني سوى ثلاث احتمالات ودفعة واحدة، انهيار اقتصادي محقق في بلد اقتصاده أصلاً على شفا حفرة من الانهيار الكارثي، واندلاع حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وانقسام البلد المحتوم إلى بلدين، بل حتى إلى شعبين، هما جاهزان تاريخياً لمثله، أي، شرق وجنوب، هو تاريخياً موال لروسيا وبعضه روس ومنه الناطقون بالروسية، وغرب موال، وتاريخياً أيضاً، للغرب تواق للالتحاق به. الأمر الذي يعني أن الأول، والذي تتركز فيه جل الصناعات الأوكرانية والمرتبطة بروسيا، سيعود تلقائياً ومرحباً به إلى الحضن الروسي، والثاني ذو النزوع الغربوي سيغدو (ناتوياً) قطعاً ومعاد لروسيا. يعني تقسيم البلد على اثنين لا محالة، وهو الأمر الذي من المفترض أنه يتنافى مع مصلحة كل من الطرفين الروسي والغربي، ناهيك عن الأوكراني، وعليه، فهما لا يريدانه، لكن مع بقائه خياراً أخيراً إن عزت الحلول المقبولة، وبالتالي، فهما مضطران، ولو مناورةً، للجنوح للتهدئة، أو حتى التظاهر به، بالرغم من أن بوتين في أكثر من إشارة لافتة كلف وزير دفاعه "بإجراء متكامل لجهوزية القوات المسلحة في الدائرتين العسكريتين الغربية والمركزية"، كما لا يمكن تجاهل التطورات الأخيرة في القرم، والتي 60% من قاطنيها روساً، وصولاً إلى ما سمعناه من كيري محذراً بأن أي تدخل محتمل سوف يشكِّل "خطأً فادحاً"، لكن مع تكراره التأكيد على عدم وجوب العودة إلى مناخات الحرب الباردة.. لماذا التهدئة؟
لأن تقسيم أوكرانيا سوف يعني للروس انضمام غربها المحتوم للاتحاد الأوروبي و(للناتو). أما بالنسبة للغرب، فبالإضافة إلى رجوع شرقها وجنوبها وشبه جزيرة القرم إلى الحضن الروسي، فإن (أوكرانياه) في الغرب المنقسمة عن شرقها سوف لن تكون أكثر من مشروع دولة فاشلة، لتعرضها للمقاطعة الاقتصادية الروسية أولاً، ولأنها سوف تنوء تحت بلوى اشتراطات البنك الدولي ثانياً، وبالتالي فسوف تكون العبء والعالة عليه، وهذا ما يصعب عليه تحمله في مرحلة تراجعت فيها هيبته ووهنت قدرته ولهثت اقتصادياته المكابدة لأزماتها. والغرب يعلم أن لدى الروس أوراقهم التي يستطيعون متى شاءوا لعبها في الساحة الأوكرانية، ويدرك بأنه يسهل عليهم إن اضطروا إشارة البدء بتقسيمها. كما بقدرتهم ولا ما يمنعهم إن قرروا استعادة القرم ذا الحكم الذاتي الذي ضم إلى جمهورية أوكرانيا السوفيتية في عهد الرئيس السوفيتي الأوكراني (نيكيتا خروتشوف).
ما تقدم، هو وراء بادي محاولات كتم الغضب روسياً، وقول (لافروف) أنه من "الخطير إجبار أوكرانيا على الاختيار"، وتأكيدات (آشتون)، في نفاق مكشوف لكنه يفضح ما يضعه الغرب في حسبانه ويتخوف منه، "على أهمية العلاقات القوية بين أوكرانيا وروسيا، وأهمية الحفاظ على تلك العلاقات". وشبيه هذا كان في مطالبة (فابيوس) بأن "لا توضع روسيا في كفة والاتحاد الأوروبي في كفة أخرى"، وتحذيره، في إشارة منه إلى العبء الأوكراني الذي لا يخفي الأوروبيون خشيتهم منه، من أن سحب الدعم الروسي لأوكرانيا "بالغ الخطورة"، ويتضح ما يرمي إليه (فابيوس) أكثر عندما يقول "إن الاتحاد لا يمكنه أن يتحرك لدعمها إلا إذا أقدم الصندوق الدولي على مساعدتها"، ودونما أن ينسى أن يضيف، بأن "هذا يتطلب منها إصلاحات لن تكون سهلة"، أو ما سيجلبه من غضب شعبي سيصب في صالح الروس.
احتمالات الجنوح إلى التهدئة المؤقتة في أوكرانيا، أو تأجيل الخيارات الأخرى، دفع البعض إلى التساؤل عما إذا كان هناك ما من شأنه أن يشي بنوع من صفقة ما قد تتم بين الطرفين تراعي واقع ما كنا بيَّناه فيما تقدم، ومن شأنها، مثلاً، أن تدفع الروس للتخلي عن رجلهم الضعيف واللاجىء الآن للقرم (يانكوفيتش)، وبالتالي، يأتي التساؤل عن موقع (تيموشينكا) في متخيل المعادلة المتوافق عليها لحفظ توازنات المصالح الروسية والغربية في أوكرانيا التهدئة المؤقتة هذه؟!
في راهن التعقيدات الأوكرانية قد يكون مثل هذا محتملاً، مثله مثل التدخُّل الروسي المباشر، والأيام القادمة وحدها الكفيلة بترجيح أحدهما.
1/3/2014